الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : واستدل من أخذ بقول أبي حنيفة على تحريمه بعموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم كيفية تملك الصيدولحم الخنزير [ المائدة : 3 ] .

وبرواية ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أحلت لنا ميتتان ودمان الحوت والجراد واسم الحوت خاص في السمك ، فكانت الإباحة مقصورة عليه : ولأن ما اختص بغير اسم الحوت لم ينطلق عليه إباحة الأكل كالبري : لأن الحيوان لا يختلف حكم إباحته باختلاف مواطنه كالخنزير الجبلي والسهلي .

والدليل على إباحة جميعه قول الله تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة [ المائدة : 96 ] يعني بصيد البحر صيد الماء من بحر أو نهر أو عين أو بئر : لأن أصل جميع المياه من البحر ، وفي طعامه تأويلان :

أحدهما : طافية ، وهو قول أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما .

والثاني : مملوحة ، وهو قول ابن عباس وفي قوله " متاعا " تأويلان :

أحدهما : طعام .

والثاني : منفعة ، وفي قوله : " وللسيارة " ثلاثة تأويلات :

أحدها : الحلال والمحرم .

والثاني : المقيم والمسافر .

والثالث : لأهل الأمصار وأهل القرى .

والدليل في هذه الآية من وجهين :

أحدهما : قوله تعالى : أحل لكم صيد البحر يعني صيد البحر ، فكان على عمومه في جميع حيوانه .

[ ص: 62 ] والثاني : قوله : وطعامه متاعا لكم وللسيارة يعني مطعومه ، فدل على أن جميعه مطعوم .

وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته فعم جميع ميتاته ، ولم يخصها .

وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال : كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم ، وهو محكي عن غيره من الصحابة ، وليس فيه مخالف له ، فكان إجماعا : ولأن ما لم يعش من الحيوان إلا في الماء حل أكله ميتا كالحوت .

فأما الجواب عن استدلاله بقوله تعالى : أو لحم خنزير [ الأنعام : 145 ] فمن وجهين :

أحدهما : أن مطلق اسم الخنزير لا ينطلق لغة وعرفا إلا على خنزير البر ، فإن أريد به غيره ، قيل : خنزير الماء ؛ مقيدا به ، فوجب أن يحمل حكمه على إطلاقه .

والجواب الثاني : أن اسمه لو انطلق عليها لخص تحريمها بقوله : لكل ميتة .

وأما الصواب عن قوله : " الميتتان الحوت والجراد " ، فمن وجهين :

أحدهما : أن اسم الحوت ينطلق على جميعها ، فكان دليلا على إباحتها دون حظرها .

والثاني : أن قوله : " الحل ميتته " أعم منه فصار الحوت داخلا في عمومه ، ولم يخصه : لأنه لا ينافيه .

وأما الجواب عن قياسه على البري ، فهو أن الشرع قد فرق بين حيوان البر والبحر ، فلم يجز أن يجمع بينهما بالقياس .

وأما الجواب عن استدلاله بأن إباحة الحيوان لا يختلف باختلاف مواطنه ، فهو مدفوع بالإجماع ، ولاختلاف الأماكن مع الإجماع في الاسم والصورة تأثير في الحظر والإباحة : لأن الحمار الوحشي والحمار الأهلي يجتمعان في الاسم ، ويشتبهان في الصورة ، ويفترقان في الإباحة ، فيحل الوحشي ، ويحرم الأهلي : لاختلافهما في المكان ، وإن كان البر يجمعهما ، فكان ما افترقا في البر والبحر أولى أن يفترقا في الإباحة والحظر ، وإن اشتركا في الاسم واشتبها في الصورة ، وبهذا يبطل قول من ذهب من أصحابنا إلى اعتبار حيوان البحر بحيوان البر فأحل منه ما أشبه محللات البر وحرم منه ما أشبه محرمات البر .

التالي السابق


الخدمات العلمية