الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ويخطب الإمام قائما خطبتين ، يجلس بينهما جلسة خفيفة ، إلا أن يكون مريضا فيخطب جالسا ولا بأس بالكلام ما لم يخطب " .

قال الماوردي : وهذا كما قال . خطبة الجمعة واجبة ، وهي من شرط صحتها ، لا يصح أداء الجمعة إلا بها ، فهو مذهب الفقهاء كافة إلا الحسن البصري فإنه شذ عن الإجماع وقال : إنها ليست واجبة ، لأن الجمعة قد تصح لمن لم يحضر الخطبة ، ولو كانت واجبة لم يصح إدراك الجمعة إلا بها . وهذا خطأ ، ويوضحه إجماع من قبل الحسن وبعده ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] . فكان في هذه الآية دلالة من وجهين :

أحدهما : أن أمره بالسعي إلى ذكر الله يتضمن الخطبة والصلاة ، فاقتضى أن يكون الأمر بها واجبا .

والثاني : أن الذكر مجمل ، يفتقر إلى بيان ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك : بأن خطب خطبتين ، وصلى ركعتين وأكده بقوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي .

وأما قوله : إنها لو كانت واجبة لتعلق إدراك الجمعة بحضورها فغير صحيح ، لأن [ ص: 433 ] الركعتين واجبتان بإجماع ، ثم لا يتعلق إدراك الجمعة بها ، لو أدرك ركعة صحت له الجمعة ، فكذلك الخطبة .

فصل : فإذا ثبت وجوب الخطبة فوجوبها يتضمن شيئين :

أحدهما : قول يأتي ذكره وتفصيله .

والثاني : فعل وهو ثلاثة أشياء : قيام في الأولى ، وجلسة بعد فراغه منها ، وقيام في الثانية إلى انقضائها ، فإن ترك القيام في الأولى أو في الثانية ، أو ترك الجلسة بينهما ، لم يجز أن يصلي جمعة . قال الشافعي ، رحمه الله : فلو أتى بالقيامين ولم يجلس وسكت لم تجزهم الجمعة .

وقال أبو حنيفة : لا تفتقر الخطبة إلى ما ذكرنا من القيامين والجلوس ، وكيف ما خطب قائما أو قاعدا أجزأه ، واستدل على أن القيام ليس بواجب : بأنه ذكر للصلاة يتقدمها ، فوجب أن لا يكون من شرطه القيام كالأذان ، واستدل على أن الجلسة ليست بواجبة بأن قال : الخطبة تشتمل على جلستين :

إحداهما : متقدمة والثانية متوسطة ، فلما لم تجب الأولى منهما لم تجب الثانية . وهذا خطأ . ودليلنا : قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما [ الجمعة : 295 ] .

قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " ولم أعلم مخالفا بين أهل العلم أنهم انفضوا عنه صلى الله عليه وسلم في حال قيامه في الخطبة . فاقتضى أن يكون القيام واجبا فيهما ، ليستحقوا الذي بتركه فيه ، وروى نافع عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الخطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة .

وروى جابر بن سمرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ، ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب قائما ، ومن حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب قاعدا فقد كذب ، فوالله لقد صليت معه أكثر من ألفي صلاة ولأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين ، والقيام من شرط الصلاة ، فوجب أن يكون من شرط الخطبة .

فأما الجواب عن قياسه على الأذان : فالمعنى : أنه لما لم يكن واجبا لم يكن القيام فيه واجبا ، ولما وجبت الخطبة وجب القيام فيها .

وأما جمعه بين الجلسة الأولى والثانية فقد كان ذلك يوجب الأولى دون الثانية ، وأبو [ ص: 434 ] حنيفة يسقط وجوبهما معا ، والصحيح وجوب الثانية دون الأولى ، لأن الأولى ليست من الخطبة ، وإنما هي جلسة استراحة ، والثانية من الخطبة وأزيدت للفصل بين القيام ، فكانت واجبة كالجلسة بين السجدتين .

وقد حكى ابن المنذر أنه لم يقل بمذهب أبي حنيفة غيره ، وحكى الطحاوي أنه لم يقل بمذهب الشافعي ، رحمه الله غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية