الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما أكل الحمير ، فما كان منها وحشيا فأكله حلال ، روى الشافعي ، عن مطرف بن مازن ، عن معمر بن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قبالة ، عن أبيه قال : بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية ، وقد أحرم من أحرم من أصحابي ، ولم أحرم ، فإذا أنا بحمار وحشي ، فحملت عليه فطعنته برمحي فصرعته فأكلنا من لحمه ، ثم لحقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : أصبت حمارا وحشيا وعندي منه فأكله ، وقال للقوم وهم محرمون : كلوا فأكلوا .

فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام : على إباحة أكل الحمار الوحشي ، ودل على أن زكاة الصيد الممتنع في أي موضع أصيب من جسده ، ودل على أن المحرم يحل له أن يأكل من صيد المحرم إذا لم يصده لأجله .

وروى الصعب بن جثامة قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل حمار وحشي ، فرده علي فتعمر وجهي ، فلما عرف الكراهة في وجهي قال : ما بنا رد عليك ، ولكنا قوم حرم ، فامتنع من أكله لإحرامه ، فإن الصعب صاده لأجله بعد إحلاله من الإحرام . وفي قول الصعب : رجل حمار وحشي تأويلان :

أحدهما : يعني به أحد رجليه التي يمشي عليها .

والثاني : أنه أراد جماعة حمير يقال لها : رجل ، كما يقال حيط نعام ، وسرب ظباء ، وهو أشبه ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقصد وهو في كثير من أصحابه بهدية عضو من حمار .

فأما الحمير الأهلية فأكلها حرام ، واختلف أصحابنا ، هل حرمت باستخباث العرب لها أو بالنص في المنع منها : على وجهين ، وبتحريمها . قال جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء ، وقال عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير : أكلها حلال احتجاجا بحديث رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عبيد بن الحسن ، عن أبي معقل قال : " أخبرنا رجلان من مزينة قالا : قلنا يا رسول الله ، إنه لم تبق لنا الشدة إلا الحمر ، أفنأكل منها ؟ فقال : أطعما أهلكما من سمين ، فإني إنما قدرت عليكم بجوال القربة " ، يعني : أكلة الزبل والعذرة .

[ ص: 142 ] قال الشافعي : لا أعرف من ثبوت هذا الحديث على الانفراد ما أعرف من ثبوت نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية فأحرمها .

ونهيه عنها دليل على إباحة الحمر الوحشية ، لأنه إذا نهى عن شيء يجمع صنفين ، فقد أباح ما يخرج عن صنفه .

والدليل على تحريم الحمر الأهلية ما رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن أيوب السختياني ، عن محمد بن سيرين ، عن أنس بن مالك قال : صبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر بكرة ، وقد خرجوا بالشاة من الحصن ، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : محمد والخميس ، ثم لجوا إلى الحصن ، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثلاثا ، وقال : الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ، فلما فتحوها أصابوا حمرا فطبخوا منها ، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا إن الله ورسوله ينهاكم عنها ، فإنها رجس ، فكفوا القدور وإنها لتفور .

فاحتمل ما حكموا به من أكلها ، لأنهم كانوا يستطيبونها كالحمر الوحشية ، حتى نهوا عنها بالنص .

واحتمل أن يكونوا هموا بذلك لمجاعة لحقتهم حتى نهوا عنها بالفتح ، فلذلك ما اختلف أصحابنا في علة تحريمها على وجهين ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية