الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا ثبت جواز الانتفاع به ، فالمنافع تنقسم ثلاثة أقسام : قسم ورد النص بإباحته ، وقسم ورد النص بالنهي عنه ، وقسم مرسل لم يرد فيه نص .

فأما القسم الأول الذي ورد النص بإباحته ، فهو الاستصباح به ، فكذلك ما في معناه من إسجار التنانير بالبعر والسرجين وجميع الأنجاس ، وإبقائه تحت القدور ، ومن الاصطلاء بناره ، واختلف أصحابنا في نجاسة دخانه على وجهين :

أحدهما : أنه نجس : لأنه تولد عن نجاسة والأعيان النجسة لا تطهر بالاستحالة كالرماد .

والوجه الثاني : أنه طاهر ، لأنه تولد من التقاء جسمين ، فلم ينجس بنجاسة أحد الجسمين ، كالريح الخارجة من الجوف .

فإن قيل : بطهارته لم يلزم الاحتراز منه إلا تنزها .

وإن قيل : بنجاسته ، ففي العفو عنه وجهان :

أحدهما : يعفى عنه : للحوق المشقة في التحرز منه ، كدم البراغيث ، فعلى هذا إن سجر به تنورا لم يلزمه مسحه منه ، وجاز الخبز فيه .

والوجه الثاني : أنه لا يعفى عنه : لأن البعد منه عند استعماله له ممكن ، فأمكن التحرز منه ، ولا يمكن التحرز من دم البراغيث .

فعلى هذا إن تدخن به ثوب وجب غسله ، وإذا سجر به تنور ، وجب مسحه منه قبل الخبز فيه ، فإن خبز فيه قبل مسحه نجس ظهر الرغيف ، وكان وجهه طاهرا ، ولم يجز أن يأكل الرغيف إلا بعد أن يغسل ظاهره .

وأما القسم الثاني : الذي ورد النص بالنهي عنه ، وهو أن تطلى به السفن والمراكب .

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تطلى السفن بشحوم الميتة ، وحكم شحوم الميتة والزيت النجس سواء في جواز الاستصباح بهما ، فكان سواء في المنع من إطلاء السفن بهما .

[ ص: 162 ] باب ما لا يحل أكله وما يجوز للمضطر من الميتة ، واختلف في معنى النهي عن طلاء السفن وجواز الاستصباح على وجهين :

أحدهما : أن في الاستصباح به استهلاكا له فجاز وفي طلاء السفن به استبقاء له ، فلم يجز .

والوجه الثاني : أن المصباح لا يمسه في الغالب إلا من يعلم بالنجاسة فيتوقاها ، والسفينة يمسها في الغالب من لا يعلم بالنجاسة ، فلا يتوقاها .

فعلى هذا إن جعل طلاء للبهائم ، فإن كانت مستعملة لم يجز كالسفينة : لوجود العلتين من بقاء العين ومسيس حق لا يعلم .

وإن كانت سائمة غير مستعملة ، فعلى وجهين :

أحدهما : يجوز تعليلا بأنه لا يكاد يمسها من لا يعلم بها .

والثاني : لا يجوز تعليلا ببقاء عينها .

وأما القسم الثالث : وهو المرسل عن أمر به أو نهى عنه ، فينظر في استعماله ، فإن وجد فيه معنى الأمر أبيح ، وإن وجد فيه معنى النهي حظر .

فعلى هذا يجوز أن يطعم البازي والفهد لحم الميتة لوجود معنى الإباحة فيه ، بالاستهلاك ، فإنه لا يباشرها من لا يعلم بها ، ويجوز أن يسقيهما الماء النجس ، والأبوال .

فأما طرح الأنجاس من البعر والسرجين على الزروع والأشجار ، فإن لم يماس الثمرة المأكولة ، وكان مستعملا في أصول الشجر وفي قضبان الزرع جاز : لاشتهار حالها وأنه لا يباشرها إلا عالم بها ، وإن كان مستعملا من ثمارها ، فإن كانت يابسة جاز ، لأن اليابس لا ينجس يابسا . وإن كان أحدهما رطبا أو نديا ، بنجس بالملاقاة ، فإباحة استعماله مقرونا بأحد شرطين إما بغسله قبل بيعه ، أو بإعلام مشتريه بنجاسته ، وهكذا إذا عجن طين الكيزان والخزف بالسرجين لزمه عند بيعه أن يغسله أو يخبر بنجاسته ، يغسله المشتري قبل استعماله ، فإن صار هذا عرفا مشهورا بين جميع الناس سقط الأمران عند بيعه من الغسل والإعلام ، ولم يكن للمشتري أن يستعمله إلا بعد غسله : لأنه قد صار بالعرف معلوم النجاسة .

التالي السابق


الخدمات العلمية