الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فأما المضطر إذا مر بثمرة أو زرع أو طعام لغيره ، فلا يخلو إما أن يكون مالكه حاضرا أو غائبا ، فإن كان غائبا كان للمضطر أن يأكل منه محرزا كان أو بارزا ، وفي قدر ما يأكل منه قولان ، كالميتة :

أحدهما : قدر ما يمسك رمقه .

والثاني : أن يشبع منه : لأنه لما استباح بالضرورة ما تعلق بحقوق الله تعالى من تحريم الميتة استباح بها مما تعلق بحقوق الآدميين من الأموال ، فإذا أكل منها قدر الإباحة ، فثمن قيمته لمالكه : لأن الضرورة إنما دعت إلى الأكل ، ولم تدع إلى سقوط الغرم ، فإن كان موسرا عجل دفع القيمة ، وإن كان معسرا أنظر بها إلى ميسرته .

وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب عليه قيمة ما أكل : لأنه يصير بالضرورة كالاستباحة التي لا تضمن من الميتة ، وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن الميتة لا قيمة لها ، وللطعام قيمة .

والثاني : أن الميتة لا مالك لها ، وللطعام مالك ، وإن كان صاحب الطعام حاضرا ، فعلى المضطر أن يستأذنه في الأكل بعد إخباره بضرورته ، وعلى مالك الطعام [ ص: 172 ] إذا علم بحاله أن يأذن له في الأكل استحياء لنفسه لقوله تعالى : ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا [ المائدة : 32 ] ، ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من أعان على قتل مسلم ، ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله : ولأنه لو قدر على استنقاذه بماله من تلف كغرق أو حريق وجب عليه كذلك إذا قدر على استنقاذه بماله من تلف الجوع .

وإذا كان كذلك لم يخل حال المالك من أن يأذن له في الأكل أو لا يأذن ، فإن أذن له في الأكل لم يخل حال إذنه من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يأذن له بإباحة الأكل ، فللمضطر أن يأكل منه حتى ينتهي إلى حد الشبع قولا واحدا : لأنه قد صار بالإباحة كطعام الولائم التي يجوز الشبع منها ، ولا يجوز له الزيادة على شبعه ، ولا يأخذ منها بعد الأكل شيئا .

والقسم الثاني : أن يأذن له في الأكل بعوض ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن لا يذكر قدر العوض ، فللمضطر أن يأكل ، وعليه قيمة ما أكل في وقته بمكانه ، وله أن ينتهي إلى حد الشبع .

والضرب الثاني : أن يذكر له قدر العوض ، فهو على ضربين :

أحدهما : أن يكون ثمن مثله ، فله أن يأكل ، فإن أفرد له ما يأكله حين سمى ثمنه صح الثمن ، وكان له أن يأكل ما أفرده ، فإن فضل منه فضلة أخذها : لأنه قدر ملكها بابتياع صحيح ، وإن لم يفرد ما سمى ثمنه قبل الأكل لزم المضطر قيمة ما أكل سواء كان أقل عن المسمى أو أكثر : لأن ما يأكله مجهولا لا يصح فيه ثمن مسمى .

والضرب الثاني : أن يكون ما سماه من الثمن أكثر من ثمن مثله ، فيكون بطلب الزيادة من المضطر آثما ، وينظر ، فإن لم يفرد ما سمى ثمنه لم يلزم المضطر فيما أكل إلا قيمته بمكانه في وقته ، وبطل المسمى ، وإن أفرد ما سمى ثمنه ففي قدر ما يلزم المضطر إذا أكله وجهان :

أحدهما : الثمن المسمى لما تضمنه من عقد لازم .

والوجه الثاني : ثمن المثل دون المسمى لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر ، وهو هذا .

وأصح من هذين الوجهين المطلقين عندي أن ينظر ، فإن كانت الزيادة في الثمن لا تشق على المضطر ليساره ، فهو في بذلها غير مكره ، فلزمته وإن كانت شاقة عليه لإعساره ، فهو من بذلها مكره ، فلم تلزمه .

والقسم الثالث : أن يأذن له في الأكل إذنا مطلقا من غير تصريح بإباحة ولا [ ص: 173 ] معاوضة ، فله أن يأكل حتى ينتهي إلى حد الشبع كطعام الولائم ، ولا قيمة عليه : لأن عرف الاستطعام والإطعام موضوع على المواساة ، دون المعاوضة ، فأوجب إطلاق الإذن حمله على العرف ، والمعهود فيه .

فلو اختلف في الإذن ، فقال المالك : أذنت لك في أكله بعوض لي عليك .

وقال المضطر : بل أذنت لي في الأكل مبيحا ، فلا عوض لك علي ، فالقول قول المالك مع يمينه : لأنه مالك .

فإن اختلف في قدر القيمة ، فالقول قول المضطر مع يمينه لأنه غارم .

التالي السابق


الخدمات العلمية