الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " متى دخل وقت العصر قبل أن يسلم الإمام من الجمعة فعليه أن يتمها ظهرا " .

قال الماوردي : وهو كما قال . إذا أحرم الإمام بصلاة الجمعة في وقتها ، ثم دخل عليه وقت العصر قبل سلامه منها ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الشافعي لا يجوز أن يتمها جمعة ، لكن يتمها ظهرا أربعا بتحريم الجمعة .

والمذهب الثاني : وهو مذهب عطاء وأحمد بن حنبل يجوز أن يتمها جمعة إذا دخل وقت العصر ، ولا يجوز أن يستأنفها فيه .

والمذهب الثالث : وهو مذهب مالك وابن القاسم يجوز أن يتمها جمعة ، ويجوز أن يستأنفها فيه .

والمذهب الرابع : وهو مذهب أبي حنيفة قد بطلت الصلاة بدخول وقت العصر ، فلا يجوز أن يتمها ظهرا ولا جمعة .

فصل : فأما أحمد بن حنبل فاستدل بقوله صلى الله عليه وسلم : ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا .

قال : ولأن العدد شرط كما أن الوقت شرط ، فلما جاز أن يأتي ببعض الجمعة مع العدد وباقيها بلا عدد جاز أن يأتي ببعضها في الوقت وبباقيها في خارج الوقت . والدلالة [ ص: 436 ] عليه : هو أنه وقت يحل فيه أداء العصر بكل حال فلم يجز أداء الجمعة فيه ، أصله : إذا أراد استئناف الجمعة فيه ، ولأن كل وقت لم يصح فيه كل الجمعة لم يصح فيه جزء منها ، قياسا على الزوال . فأما الجواب عن الخبر : فهو محمول على غير الجمعة ، وأما ما ذكره من العدد : فإن قاسه على المأموم إذا أدرك ركعة فإنما جاز له البناء على الجمعة لأداء الجمعة بالعدد الكامل ، فكان بالغا لهما ، وفي مسألتنا لم يؤد الجمعة في وقتها ، فلم يجز البناء عليها ، وإن قاسه على الإمام قلنا : فيه قولان :

أحدهما : يبني على الظهر ، فعلى هذا قد استويا .

والثاني : يبني على الجمعة ، فعلى هذا الفرق بينهما : أن الاحتراز من انفضاض العدد غير ممكن فلم يكن مفرطا في فواته ، فجاز أن يتمها جمعة ، والاحتراز من خروج الوقت ممكن ، فكان مفرطا في فواته فلم يجز أن يتمها جمعة .

فصل : فأما مالك فإنه يبني ذلك على أصله في أن وقت الظهر ممازج لوقت العصر ، فلذلك جوز استئناف الجمعة فيه ، وقد مضى الكلام معه في أول كتاب الصلاة ، فلا معنى لإعادته .

فصل : فأما أبو حنيفة فاستدل من نص قوله بأن قال : بأنها تحريمة أوجبت الجمعة ، فلم يجز بناء الظهر عليها ، أصله إذا كان الوقت باقيا ، قال : ولأنهما صلاتان مختلفتان ، ليست إحداهما هي الأخرى ولا بعضها ، بدلالة أن الجمعة يجهر بالقراءة فيها ، وتختص بشرائط لا يختص الظهر بها ، وإذا صح أنهما صلاتان مختلفتان لم يجز بناء أحدهما على تحريمة الأخرى ، كالصبح والظهر .

وهذا خطأ . والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : أنهما صلاتان يسقط فرض أحدهما بفعل الأخرى ، فجاز أن يبنى التمام منهما على المقصور ، أصله إذا أحرم بالصلاة مسافرا ثم صلى مقيما ، ولأن الجمعة ظهر مقصورة بشرائط فوجب إذا انخرم بعض شرائطها أن لا تبطل ، وتعود إلى حكم أصلها أربعا ، كما أن صلاة السفر إذا انخرم بعض شرائطها لم تبطل ، وعادت إلى حكم أصلها أربعا ، ولأن العدد شرط كما أن الوقت شرط ، فلما لم تبطل الجمعة بفقد أحدهما ، وهو العدد إذا نقص ، لم تبطل بفقد الآخر ، وهو الوقت إذا خرج ، وإذا لم تبطل لم يصح له البناء على الجمعة : لأن فعل الصلاة بعد الوقت قضاء ، والجمعة لا تقضى .

وأما الجواب عن قياسهم إذا كان الوقت باقيا : فالمعنى فيه أنه يجوز استئناف الجمعة فيه فلذلك لم يجز أن يبني على الظهر ، ولما لم يجز استئناف الجمعة بعد الوقت جاز البناء على الظهر .

[ ص: 437 ] وأما قولهم إنهما صلاتان مختلفتان : فليس ذلك بمانع من بناء أحدهما على الأخرى كصلاة السفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية