الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا صح جوازه من كل باذل لم يخل التبدل من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يختص به السابق وحده دون غيره ، كقوله : إذا كان المتسابقون عشرة ، فقد جعلت للسابق منكم عشرة ، وهذا جائز ، فأيهم جاء سابقا لجماعتهم استحق العشرة كلها ، ولا شيء لمن بعده ، وإن كانوا متفاضلين في السبق ، فلو سبق اثنان من الجماعة ، فجاءا معا ، وتأخر الباقون ، اشترك الاثنان في العشرة ، لتساويهما في السبق ، فاستويا في الأخذ ، ولو سبق خمسة اشتركوا في الأخذ كذلك ، ولو سبق تسعة وتأخر واحد اشتركوا في العشرة دون المتأخر منهم ، ولو جاءوا مجيئا واحدا لم يتأخر عنهم واحد منهم ، فلا شيء لهم : لأنه ليس فيهم سابق ، ولا مسبوق .

[ ص: 190 ] والقسم الثاني : أن يبذله لجماعة منهم ، ولا يبذله لجميعهم ، كأنه بذل للأول عوضا وللثاني عوضا ، ولكل واحد منهم في اللغة اسم إذا تقدم على غيره خاص يقال للسابق الأول : المجلي ، والثاني : المصلي ، والثالث : التالي ، والرابع : البارع ، والخامس : المرتاح ، والسادس : الحظي ، والسابع : العاطف ، والثامن : المؤمل ، والتاسع : اللطيم ، والعاشر : السكيت ، وليس لما بعد العاشر اسم إلا الذي يجيء آخر الخيل ، كلها ، يقال له : الفسكل ، فإذا بذل لبعض دون بعض ، فعلى ضربين :

أحدهما : أن يفاضل بين السابق والمسبوق ، فيجعل للأول الذي هو المجلي عشرة ، ويجعل للثاني الذي هو المصلي تسعة ، والثالث الذي هو التالي خمسة ، والرابع الذي هو البارع أربعة ، والخامس الذي هو المرتاح ثلاثة ، ولا يجعل لمن بعدهم شيئا فإن هذا جائز : لأنه قد منع المسبوقين وناضل بين السابقين ، فحصل التحريض في طلب التفاضل ، وخشية المنع .

ويتفرع على هذا أن يجعل للسابق عشرة ، وللمصلي خمسة ، ولا يجعل لمن بعدهم شيئا ، فيكون السابق خمسة والمصلي واحدا ، فيقسم الخمسة السابقين بالعشرة لكل واحد درهمان ، وينفرد الواحد المصلي بالخمسة ، وإن صار بهما أفضل من السابقين ، لأنه أخذ الزيادة لتفرده بدرجته ، ولم يأخذها لتفضيل أصل درجته ، وقد كان يجوز أن يشاركه غيره في درجته ، فيقل سهمه عن سهم من بعده ، ثم على هذا القياس إذا جعل للتالي شيئا ثالثا ، فحصل من كل درجة انفراد أو اشتراك ، وجب أن يختص المنفرد بسبق درجته ، ويشترك المشتركون بسبق درجتهم .

والضرب الثاني : أن يسوي فيهم بين سابق ومسبوق كأنه جعل للسابق عشرة وللمصلي عشرة ، وفاضل بين بقية الخمسة ، وهذا غير جائز : لأن مقتضى التحريض ، أن يفاضل بين السابق والمسبوق فإذا تساويا فيه بطل مقصوده فلم يجز ، وكان السبق من حق المصلي الذي سوى بينه وبين سابقه باطلا ، ولم يبطل في حق الأول ، وفي بطلانه في حق من عداه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الذي بطل السبق في حقه ، هل يستحق على الباذل أجرة مثله أم لا على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا أجرة له على الباذل ، لأن منعه عائد عليه ، لا على الباذل .

فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده ، باطلا : لأنه يجوز أن يفضلوا به عن من سبقهم .

والوجه الثاني : وهو قول أبي علي الطبري أن له على الباذل أجرة مثله ، لأن من [ ص: 191 ] استحق المسمى في العقد الصحيح استحق أجرة المثل في العقد الفاسد اعتبارا بكل واحد من عقدي الإجارة والجعالة ، فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده صحيحا ، ولكل واحد منهم ما سمي له ، وإن كان أكثر من أجرة مثل من بطل السبق في حقه : لأنه لا يجوز أن يفضلوا عليه إذا كان مستحقا بالعقد ، وهذا مستحق بغيره .

ويتفرع على هذا إذا جعل للأول عشرة ، ولم يجعل للثاني شيئا ، وجعل للثالث خمسة وللرابع ثلاثة ، ولم يجعل لمن بعدهم شيئا ، فالثاني خارج من السبق لخروجه من البدل ، ومن قيام من بعده مقامه وجهان :

أحدهما : يقوم الثالث مقام الثاني ، ويقوم الرابع مقام الثالث : لأنه يصير وجوده بالخروج من السبق كعدمه ، فعلى هذا يصح السبق فيها ، بالمسمى لهما بعد الأول .

والوجه الثاني : أنهم يترتبون على التسمية ، ولا يكون خروج الثاني منهم بالحكم مخرجا له من الثالث ، فعلى هذا يكون السبق فيها باطلا ، لتفضيلها على السابق لهما ، وهل يكون لهما أجرة مثلها أم لا على ما ذكرنا من الوجهين .

والقسم الثالث : أن يبذل العوض لجماعتهم ، ولا يخلى آخرهم من عوض ، فينظر ، فإن سوى فيهم بين سابق ومسبوق كان السبق باطلا ، وكان الحكم فيه على ما قدمنا ، وإن لم يساو بين السابق والمسبوق ، وفضل كل سابق على كل مسبوق ، حتى يجعل مستأخرهم أقلهم سهما ، ففي السبق وجهان :

أحدهما : أنه جائز اعتبارا بالتفاضل في السبق ، فعلى هذا يأخذ كل واحد منهم ما سمي له .

والوجه الثاني : أن السبق باطل : لأنهم قد تكافئوا في الأخذ ، وإن تفاضلوا فيه ، فعلى هذا هل يكون باطلا في حق الآخر وحده : فيه وجهان :

أحدهما : أنه باطل في حقه وحده : لأن بالتسمية له فسد السبق .

والوجه الثاني : أنه يكون باطلا في حقوق جماعتهم : لأن أول العقد مرتبط بآخره ، وهل يستحق كل واحد منهم أجرة مثله أم لا على الوجهين المذكورين ، فهذا حكم السبق الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية