الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : ولا بأس أن يناضل أهل النشاب أهل العربية وأهل الحسبان : لأن لها نصل ، وكذلك القسي الدودانية والهندية وكل قوس يرمى عنها بسهم ذي نصل .

قال الماوردي : أنواع القسي تختلف باختلاف أنواع الناس ، فللعرب قسي وسهام ، وللعجم قسي وسهام ، وقيل : إن أول من صنع القسي العربية إبراهيم الخليل - صلوات الله عليه - وأول من صنع القسي الفارسية النمروذ بن كنعان ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب القوس العربية ، ويأمر بها ، ويكره القوس الفارسية ، وينهى عنها ، ورأى رجلا يحمل قوسا فارسية فقال : ملعون حاملها ، عليكم بالقسي العربية وسهامها ، فإنه سيفتح عليكم بها وليس هذا منه محمولا على الحظر المانع ، وفي تأويله ثلاثة أوجه :

أحدها : ليحفظ به آثار العرب ، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيره ، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقيا .

والوجه الثاني : أنه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبهوا بأهل الحرب من المشركين ، فيقتلوا ، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيلها مرتفعا : لأنها قد فشت في عامة المسلمين .

والثالث : ما قاله عطاء أنه لعن من قاتل المسلمين بها ، فعلى هذا لا يكون ذلك ندبا إلى تفضيل العربية عليها ، ويكون نهيا عن قتال المسلمين بها وبغيرها ، وخصها باللعن ؛ لأنها كانت أنكأ في المسلمين من غيرها ، وقد رضي عنها الصحابة والتابعون في قتال المشركين ، وإن كان الاقتداء برسول الله لكن في قوسه لمن قوي رميه عنها أحب إلينا ، فإن كان بالفارسية أرمى كانت به أولى ، ويكون الندب منها إلى ما هو به [ ص: 224 ] أرمى ، فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حال المتناضلين في عقد نضالها من خمسة أحوال :

أحدهما : أن يشترطا فيه الرمي عن القوس العربية ، فعليهما أن يتناضلا بالعربية ، وليس لواحد منهما أن يعدل عنها إلى الفارسية : لأجل الشرط ، فإن تراضيا معا على العدول عن العربية إلى الفارسية جاز : لأن موجب الشرط أن يلتزمه كل واحد منهما في حق صاحبه دون غيره .

والحال الثانية : أن يشترطا فيه الرمي عن القوس الفارسية ، فعليهما أن يتناضلا بالفارسية ، وليس لواحد منهما أن يعدل عنها إلى العربية ، فإن تراضيا معا بالعدول إليها جاز .

والحال الثالثة : أن يشترطا أن يرمي أحدهما عن القوس العربية ، ويرمي الآخر عن القوس الفارسية ، فهذا جائز ، وإن اختلفت قوساهما : لأن مقصود الرمي حذق الرامي ، والآلة تبع ، ومثله في السبق إذا شرط أحدهما أن يتسابق على فرس ، والآخر على بغل لا يجوز ، وإن سوى أبو إسحاق المروزي بينهما في الجواز : لأن المقصود في السبق المركوبان والراكبان تبع ، فلزم التساوي فيه ، ولم يلزم التساوي في آلة الرمي ، فعلى هذا ليس لواحد منهما أن يعدل عن الشرط في قوسه وإن ساوى فيهما صاحبه لأجل شرطه ، فإن راضاه عليها جاز .

والحال الرابعة : أن يشترطا أن يرمي كل واحد منهما عما شاء من قوس عربية أو فارسية ، فيجوز لكل واحد منهما أن يرمي عن أي القوسين شاء قبل الشروع في الرمي وبعده ، فإن أراد أحدهما منع صاحبه من خياره ، لم يجز ، سواء تماثلا فيها أو اختلفا .

والحال الخامسة : أن يطلقا العقد من غير شرط ، فإن كان للرماة عرف في أحد القوسين حمل عليه ، وجرى في العرف في العقد المطلق مجرى الشرط في العقد المقيد ، وإن لم يكن للرماة فيه عرف معهود فهما بالخيار فيما اتفقا عليه من أحد القوسين إذا كانا فيها متساويين : لأن مطلق العقد يوجب التكافؤ وإن اختلفا لم يقرع بينهما : لأنه أصل في العقد ، وقيل لهما : إن اتفقتما وإلا فسخ العقد بينكما .

فأما القوس " الدودانية " فهي القوس التي لها مجرى يمر السهم فيه ، ومنها قوس الرجل ، وإن كان أغلبها قوس اليد ، فيجوز أن يناضل بعضهم بعضا إذا اتفقوا ، ولا يجوز أن يتناضل الرجلان أحدهما قائم ، والآخر جالس إلا عن تراض ، فيلزم تساويهما في القيام والجلوس ، فإن اختلفا اعتبر فيه الأغلب من عرف الرماة ، ولا يجوز أن يناضل أهل النشاب أصحاب الجلاهق : لاختلاف الصفة فيها ، وأنه ليس الحذف بأحدهما حذفا بالآخر .

[ ص: 225 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية