الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ومن الرماة من زعم أنهما إذا سميا قرعا يستبقان إليه فصارا على السواء ، أو بينهما زيادة سهم ، كان للمسبق أن يزيد في عدد القرع ما شاء ، ومنهم من زعم أنه ليس له أن يزيد في عدد القرع ما لم يكونا سواء ، ومنهم من زعم أنه ليس له أن يزيد بغير رضا المسبق ( قال المزني ) رحمه الله : وهذا أشبه بقوله كما لم يكن سبقهما في الخيل ولا في الرمي ولا في الابتداء إلا باجتماعهما على غاية واحدة ، فكذلك في القياس لا يجوز لأحدهما أن يزيد إلا باجتماعهما على زيادة واحدة وبالله التوفيق " .

قال الماوردي : قد ذكرنا في لزوم عقد السبق والرمي قولين :

أحدهما : أنه لازم كالإجارة .

والثاني : أنه جائز وليس بلازم ، كالجعالة ، ويترتب عليها مسألتان :

إحداهما : في فسخ العقد ، فإن اجتمعا عليه صح ، وهل الفسخ إقالة مراضاة أو فسخ خيار على القولين :

أحدهما : يكون إقالة مراضاة إن قيل بلزومه كالإقالة في البيع والإجارة .

والثاني : فسخ خيار إن قيل بجوازه كالفسخ في القراض والجعالة .

وإن انفرد أحدهما بالفسخ ، فإن قيل بلزومه كالإجارة لم يكن له التفرد بالفسخ ، وإن قيل بجوازه كالجعالة ، فإن كانا قبل الشروع في العمل جاز له الفسخ ، وإن كان بعده وقبل الغلبة ، فإن كان متساويين ومتقاربين لاستوائهما في الإصابة ، أو فضل أحدهما على الآخر بسهم كان لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ ، وهو فسخ خيار ، وليس بإقالة ، وإن تفاضلا في الإصابة ، وظهرت على أحدهما للآخر قبل تمامهما ، فإن فسخ من ظهر أنه غالب جاز ، وإن فسخ من ظهر أنه مغلوب ، ففي جوازه قولان :

أحدهما : يجوز لاستوائهما في خيار العقد .

والثاني : لا يجوز لئلا يضاع على الغالب ما يلوح من وجوب حقه .

وأما المسألة الثانية في زيادة الشرط ، وهو أن يعقداه على إصابة عشرة من عشرين ، فيجعل إصابة خمسة من عشرين أو يجعل إصابة عشرة من ثلاثين أو يعقد على أن العوض فيه دينار ، فيجعل أقل أو أكثر ، فإن قيل بلزومه كالإجارة ، ولم يصح [ ص: 228 ] ذلك من أحدهما حتى يجتمعا على فسخ العقد ، واستئناف عقد مستجد .

وإن قيل بجوازه كالجعالة جاز أن ينفرد به أحدهما ، لكن لا يصير الآخذ داخلا فيه إلا أن يستأنف الرضا به ، وقيل لي : إن شئت أن تراميه على هذا ، وإلا ملك خيارك .

فأما ما حكاه الشافعي عن الرماة من مذاهبهم ، فقد اختلف أصحابنا فيما أراد به على وجهين :

أحدهما : أراد أن ما ذهب إليه من لزومه وجوازه وزيادته ، ونقصانه ، قد قاله غيره وتقدمه به .

والثاني : أنه أراد أن يبين أصح مذاهبهم عنده : ليعلم صحيحها وفاسدها .

وفي قول الشافعي : إذا سميا قرعا يستبقان إليه ثلاثة تأويلات :

أحدها : أنه أراد بالقرع صحة الإصابة .

والثاني : أنه أراد به عدد الإصابة .

والثالث : أنه أراد به مال النضال .

وأما المزني فإنه قال : كما لم يكن سباقهم في الخيل ، ولا في الرمي في الابتداء إلا باجتماعهما على غاية واحدة ، كذلك في القياس لا يجوز لأحدهما أن يزيد إلا باجتماعهما على زيادة واحدة فقد اختلف أصحابنا في مراد المزني بكلامه على وجهين :

أحدهما : أنه أراد اختيار أحد القولين في لزوم العقد دون جوازه ، فعلى هذا يكون مصيبا في اختياره ، مخطئا في تعليله : لأن أظهر القولين لزومه ، فصح اختياره ، وعلل بأن ما لم ينعقد إلا باجتماع ، لم ينفسخ إلا بالاجتماع وهذا تعليل فاسد بالعقود الجائزة كلها من المضاربة والوكالة والجعالة لا تنعقد إلا باجتماعهما ويجوز أن ينفرد بالفسخ أحدهما .

والثاني : أنه أراد به إذا دعا أحدهما في المسألة الثانية إلى زيادة أو نقصان أنه لا يلزم صاحبه إلا باجتماعهما عليه ، وهو موافق لقول الشافعي ، فعلى هذا يكون مخطئا في تأويله ، مصيبا في تعليله : لأن الشافعي لم يوجب على كل واحد منهما إلا ما اجتمعا على الرضا به في القولين معا .

التالي السابق


الخدمات العلمية