الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 235 ] فصل : وإذا تقرر ما ذكرنا فقد اختلف أصحابنا فيما أراده الشافعي في هذه المسألة بقوله : " وإن سبقه ، ولم يسم الغرض كرهته " ، هل أراد به غرض الهدف أو غرض الموقف ؟ على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه أراد غرض الموقف أن تكون مسافته مقدرة بالشرط في العقد ، وإن أغفلا ذكرها ، وعرف الرماة فيه مختلف ، بطل العقد للجهل بما هو مقصود فيه ، ويكون معنى قول الشافعي : " كرهته " أي حرمته ، كلما قال : " وأكره أن يدهن من عظم فيل " أي أحرمه ، وإن كان للرماة فيه عرف معهود ، ففي حملهما عليه مع الإطلاق وجهان :

أحدهما : يحملان فيه على العرف : لأن العرف مع عدم الشرط يقوم في العقود مقام الشرط ، فعلى هذا يكون العقد صحيحا ، ويكون معنى قول الشافعي : " كراهة " يريد : كراهة اختيار لا كراهة تحريم ، وإنما كرهه مع الصحة : لأنه ربما كان لأعيان المتناضلين أغراض في مخالفة العرف .

والوجه الثاني : أنهما لا يحملان فيه على العرف ، لهذا التعليل من اختلاف الأغراض فيه وأن القوي في البعد أرغب ، والضعيف في القرب أرغب ، فعلى هذا يكون العقد باطلا ، ويكون قوله : " كرهته " أي : حرمته ، وإذا تقدرت مسافة الغرض إما بالشرط وإما بالعرف لم يكن لواحد من المتناضلين أن يزيد فيه ، ولا ينقص منه : لأن الجواب محمول على القول بلزومه كالإجارة ، ويكون معنى قول الشافعي : " فإن سمياه كرهت أن يرفعه أو يخفضه أي : منعت أن يزيد فيه أو ينقص منه : لأن الزيادة ارتفاع ، والنقصان انخفاض ، فهذا أحد الوجهين في مراد الشافعي بالمسألة وجوابها على هذا المراد في أحكامها مع الذكر والإغفال .

والوجه الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن مراد الشافعي بهذا غرض الهدف في ارتفاعه وانخفاضه ، وتوسطه ، فإن سمياه في العقد حملا على ما سمياه ، ولم يكن لواحد منهما أن يرفعه إن كان منخفضا ولا أن يخفضه إذا كان مرتفعا التزاما بحكم الشرط .

وإن أغفلاه لم يبطل العقد بإغفاله : لأنه من توابع مقصوده ، وقيل لهما : إن اتفقتما عليه بعد العقد حملتما فيه على اتفاقكما ، ولم يكن لواحد منكما بعد الاتفاق أن يرفعه أو يخفضه ، وإن اختلفتما فيه حملتما على العرف ، ويكون الاتفاق هاهنا مقدما على العرف : لأن ارتفاع الغرض أمكن للطويل والراكب ، وانخفاضه أمكن للقصير والنازل .

وإن كان العرف عند تقدر الاتفاق مختلفا ، روعي فيه أوسط الأغراض المسمى : [ ص: 236 ] الجواني : لتعديل ما بين الإرادتين ، ويكون قول الشافعي : " كرهت " محمولا على كراهة الاختيار ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية