الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا تقررت هذه الجملة ، فقد اختلف أصحابنا في تأويل هذه المسألة على ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها مصورة في قدر المسافة التي تجوز أن يتناضلا إليها ، وحد أقلها ما يجوز أن يخطئ فيه الرماة لبعده ، وأما ما لا يجوز أن يخطئوا فيه : لقربه ، فالنضال عليه باطل ، وحد أكثرها ما يجوز أن يصيب فيه الرماة لقربه .

فأما ما لا يجوز أن يصيبوا فيه لبعده ، فالنضال عليه باطل ، وهذان الحدان في الأقل والأكثر هما حدا تحقيق لمعناهما وحدهما بالمسافة حد تقريب من غير تحقيق ، وأثر المسافة على التقريب معتاد ونادر ، فأما حده المعتاد على التقريب ، فهو مائتا ذراع ، لما روي أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم عليه من غزاة ، ووصف له حربهم فيها ، فقال : كنا نحارب العدو ، فإن كانوا منا على مائتي ذراع رميناهم [ ص: 238 ] بالسهام ، وإن كانوا دونها رضخناهم بالأحجار ، وإن كانوا أقرب من ذلك طعناهم بالرماح ، وإن كانوا أقرب إلينا ضربناهم بالسيوف ، فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : هذا هو الحرب .

وأما حده الثالث على التقريب ، فهو ثلاثمائة ذراع : لأن في الرماة من يصيب والإصابة في الزيادة عليها متعذرة .

وحكي أنه لم ير أحد كان يرمي على أربع مائة ذراع ، ويصيب إلا عقبة بن عامر الجهني ، وهذا شاذ في النادر إن صح ، فلا اعتبار به ، ولا يصح العقد عليه ، فإن عقد النضال على أكثر من المسافة المعتادة ، وهي مائتا ذراع صح العقد إذا كان مثل الراميين يصيب فيهما ، وإن كان مثلهما لا يصيب منها لم يصح وإن عقد على أكثر من المسافة النادرة وهي ثلاثمائة ذراع ، وكان مثلهما لا يصيب منها ، لم يصح العقد ، وإن كان مثلهما قد يصيب منها ، ففي صحة العقد وجهان :

أحدهما : يصح لإمكان إصابتهما منها كالمسافة المعتادة .

والوجه الثاني : أنه باطل : لأن النادر غرر ، والغرر في العقود مردود بالنهي عنه ، وحكمه ما بين المعتاد والنادر ، فيلحق بأقربهما إليه ، فإن كانت الزيادة على المائتين ، أقل من خمسين ، فهو من المعتاد ، وإن كانت أكثر من خمسين فهو في النادر .

وأما عقده على ما زاد على الثلاثمائة ، فإذا كثرت الزيادة بطل العقد على ما زاد على الثلاثمائة ، فإن كثرت الزيادة بطل العقد بها ، وإن قلت الزيادة كانت حكم الثلاثمائة في الصحة والفساد وهو معنى قول الشافعي : لأن إغفال ذكره في العقد يبطله ، فصار من لوازمه .

والقسم الثالث : ما اختلف أصحابنا فيه ، وهو : هل الإصابة من القرع إلى الخسق ، هل يحتاج فيه إلى فسخ العقد ، واستئناف غيره ، أم لا ؟ على وجهين :

أحدهما : يصح بغير فسخ ، إلحاقا بمحل الغرض .

والوجه الثاني : لا يصح إلا بعد الفسخ إلحاقا بمحل الإصابة من الغرض ، فإن اعتبر فيه الفسخ ، استأنفا الرمي ، وإن لم يعتبر فيه الفسخ بنيا على الرمي المتقدم ، ويكون معنى قول الشافعي : " ومن أجاز هذا إجازة في الرقعة " أي من أجاز الزيادة في المسافة ، فأولى أن يجيز تغيير الغرض : لأن حكم المسافة أغلظ ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية