الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 252 ] كتاب الأيمان

مختصر الأيمان والنذور وما دخل فيهما من الجامع

من كتاب الصيام ومن الإملاء ، ومن مسائل شتى سمعتها لفظا

قال الماوردي : أما اليمين فهي القسم ، سمي يمينا ؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه .

والأصل في الأيمان قول الله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم [ البقرة : 224 ] .

أما العرضة في كلام العرب ، ففيها وجهان :

أحدهما : أنها القوة ، والشدة .

والثاني : أن يكثر ذكر الشيء حتى يصير عرضة له ، ومنه قول الشاعر :


فلا تجعلني عرضة للوائم

وأما العرضة في الأيمان ، ففيها تأويلان :

أحدهما : أن يحلف بها في كل حق وباطل ، فيبتذل اسمه ، ويجعله عرضة .

والثاني : أن يجعل يمينه علة يتعلل بها في بره ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يحلف : لا يفعل الخير ، فيمتنع منه لأجل يمينه .

والثاني : أن يحلف : ليفعلن الخير ، فيفعله لبره في يمينه لا للرغبة في ثوابه .

وفي قوله : أن تبروا تأويلان :

أحدهما : أن تبروا في أيمانكم .

والثاني : أن تبروا أرحامكم .

وفي قوله : وتتقوا تأويلان :

أحدهما : أن تتقوا المعاصي .

والثاني : أن تتقوا الخبث والله سميع لأيمانكم عليم بافتقاركم .

[ ص: 253 ] وقال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم [ البقرة : 225 ] .

واللغو في كلام العرب هو ما كان قبيحا مذموما ، وخطأ مذموما مهجورا ، ومنه قوله تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه [ القصص : 55 ] .

وفي لغو الأيمان سبعة تأويلات ، وقد أفرد الشافعي لذلك بابا يذكر فيه ، وفي ترك المؤاخذة به وجهان :

أحدهما : لا يؤاخذ فيه بالكفارة .

والثاني : لا يؤاخذ فيه بالإثم .

وفي قوله تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، تأويلان :

أحدهما : ما قصدتم من الأيمان .

والثاني : ما اعتمدتم من الكذب ، والله غفور ، لعباده فيما لغوا من أيمانهم حليم في ترك معاجلتهم بالعقوبة على معاصيهم .

وقال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] . وعقدها هو لفظ باللسان ، وقصد بالقلب ؛ لأن ما لم يقصده من أيمانه هو لغو لا يؤاخذ به .

وفي تشديد قوله : عقدتم تأويلان :

أحدهما : تغليظ المأثم بتكرارها .

والثاني : أن تكرارها في المحلوف عليه إذا كان واحدا لم يلزم فيه إلا كفارة واحدة .

ثم قال تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين [ المائدة : 89 ] . فيه وجهان :

أحدهما : أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان ، قاله الحسن ، وقتادة .

والثاني : أنها كفارة الحنث بعد عقد الأيمان ، ولعله قول ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها ، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون عقدها طاعة ، وحلها معصية .

كقوله : والله لا قتلت نفسا خيرة ، ولا شربت خمرا .

فإذا حلف بقتل النفس ، وشرب الخمر ، فكانت الكفارة لتكفير مأثم الحنث دون عقد اليمين .

[ ص: 254 ] والحال الثانية : أن يكون عقدها معصية ، وحلها طاعة .

كقوله : " والله لا صليت ولا صمت " .

فإذا حنث بالصلاة والصيام كانت الكفارة لتكفير مأثم اليمين في دون الحنث .

والحال الثالثة : أن يكون عقدها مباحا ، وحلها مباحا .

كقوله : " والله لا لبست هذا الثوب ، ولا دخلت هذه الدار " .

فالكفارة تتعلق بهما ، وهي بالحنث أحق ، لاستقرار وجوبها به .

وقال تعالى : واحفظوا أيمانكم ، وفيه ثلاثة تأويلات :

أحدهما : احفظوها أن يحلفوا .

والثاني : احفظوها أن تحنثوا .

والثالث : احفظوها لتكفروا .

والسنة ما رواه أبو أمامة الحارثي ، وهو إياس بن ثعلبة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من اقتطع بيمينه مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة ، وأوجب له النار . قيل : وإن كان شيئا يسيرا . قال : وإن كان سواكا من أراك وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير ، ويكفر عن يمينه .

وروي عن النبي أنه قال : اليمين حنث أو مندمة .

وقد حلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح ، فقال : والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا ، والله لأغزون قريشا .

وروي أنه قال : إن شاء الله .

وروي أنه كان إذا أراد أن يحلف قال : لا والذي نفس محمد بيده وروي أنه كان يقول : لا ومقلب القلوب .

فإذا تقرر هذا ، فعقد اليمين موضوعة لتحقيق المحلوف عليه إن كان ماضيا ، أو لالتزامه إن كان مستقبلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية