الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رحمه الله : وأكره الأيمان على كل حال إلا فيما كان لله عز وجل طاعة ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ، فالاختيار أن يأتي الذي هو خير ، ويكفر لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك " .

قال الماوردي : اعلم أن الأيمان بالله ضربان :

أحدهما : ما كان على ماض والكلام فيه يأتي .

والضرب الثاني : ما كان على فعل مستقبل ، وهو على خمسة أقسام :

أحدها : ما كان عقدها ، والمقام عليها طاعة ، وحلها والحنث فيها معصية ، وهو أن يحلف على فعل الواجبات كقوله : والله لأصلين فرضي ، ولأزكين مالي ، ولأصوم من شهر رمضان ، ولأحجن البيت الحرام فعقدها والمقام عليها طاعة ؛ لأنها تأكيد لفعل ما فرضه الله تعالى عليه ، وحلها والحنث فيها بأن لا يصلي ولا يزكي ، ولا يصوم ، ولا يحج معصية ؛ لأنه ترك المفروض ، وهكذا لو حلف أن لا يفعل محظورا محرما كقوله : والله لا زنيت ولا سرقت ولا قتلت ولا شربت خمرا ولا قذفت محصنة ، كان عقدها باجتناب هذه المعاصي طاعة ، وحثها بارتكاب هذه المعاصي معصية .

[ ص: 265 ] والقسم الثاني : ما كان عقدها والمقام عليها معصية ، وحلها والحنث فيها طاعة ، وهو قوله : والله لا صليت ولا زكيت ولا صمت ولا حججت ، فعقدها والمقام عليها بأن لا يصلي ولا يزكي معصية : لأنه ترك فيها مفروضا عليه ، وحلها والحنث فيها بأن يصلي ويزكي طاعة : لأنه فعل مفروضا عليه .

وهكذا لو حلف على فعل المحظورات فقال : والله لأزنين ولأشربن خمرا ولأسرقن ولأقتلن كان عقدها والمقام عليها بالزنا والسرقة وغير ذلك معصية ، وحلها والحنث فيها طاعة بأن لا يزني ولا يشرب .

والقسم الثالث : ما كان عقدها والمقام عليها مستحبا ، وحلها والحنث فيها مكروها وهو قوله : والله لأصلين النوافل ولأتطوعن بالصدقة ، ولأصومن الأيام البيض ، ولأنفقن على الأقارب ، وما أشبه ذلك من الخيرات ، فعقدها والمقام عليها بفعل ذلك مستحب ، وحلها والحنث فيها بترك ذلك مكروه .

والقسم الرابع : ما كان عقدها والمقام عليها مكروها وحلها والحنث فيها مستحبا ، وهو عكس ما قدمناه فيقول : والله لا صليت نافلة ، ولا تطوعت بصدقة ولا صيام ، ولا أنفقت على ذي قرابة ، ولا عدت مريضا ، ولا شيعت جنازة ، فعقدها والمقام عليها مكروه ، وحلها والحنث فيها بفعل ذلك مستحب ، قد حلف أبو بكر أن لا يبر مسطحا ، وكان ابن خالته لأنه تكلم في الإفك ، فأنزل الله تعالى فيه : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى [ النور : 22 ] ، إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم [ النور : 22 ] ، فقال أبو بكر : بلى يا رب ، فبره وكفر .

والقسم الخامس : أن يحلف على ما فعله مباح وتركه مباح ، كقوله : والله لا دخلت هذه الدار ولا لبست هذا الثوب ، ولا أكلت هذا الطعام ، فعقدها ليس بمستحب . واختلف أصحابنا هل هو مباح أو مكروه ؟ على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن عقدها مباح ، وحلها مباح : لانعقادها على ما فعله مباح ، وتركه مباح .

والوجه الثاني : وهو ظاهر كلامه هاهنا ، أن عقدها مكروه ، وحلها مكروه : لأنه قال : وأكره الأيمان على كل حال ، فيكون عقدها مكروها : لأنه ربما عجز عن الوفاء بها ، وحلها مكروها : لأنه جعل الله عرضة بيمينه وقد نهاه عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية