الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ومن قال : والله لقد كان كذا ولم يكن أثم وكفر واحتج بقول الله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى نزلت في رجل حلف لا ينفع رجلا ، فأمره الله أن ينفعه ، وبقول الله جل ثناؤه في الظهار : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ثم جعل فيه الكفارة وبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ، فقد أمره بالحنث عامدا وبالتكفير ، ودل إجماعهم أن من حلف في الإحرام عمدا أو خطأ أو قتل صيدا عمدا أو أخطأ في الكفارة سواء ، على أن الحلف بالله وقتل المؤمن عمدا أو خطأ في الكفارة سواء .

قال الماوردي : قد مضى اليمين على الفعل المستقبل ، فأما اليمين على الفعل الماضي فضربان :

[ ص: 267 ] أحدهما : أن يكون على إثبات كقوله : والله لقد فعلت كذا .

والثاني : أن يكون على نفي كقوله : والله ما فعلت كذا ، فلا يخلو أن يكون فيها صادقا أو كاذبا ، فإن كان صادقا قد فعل ما أثبت وترك ما نفى فلا كفارة عليه : لأنها يمين بره ، وإن كان كاذبا : لأنه لم يفعل ما أثبته وفعل ما نفاه ، فقال : والله لقد أكلت ، ولم يأكل ، أو قال : والله ما أكلت وقد أكل ، فهو في هذه اليمين عاص آثم ، وتسمى اليمين الغموس : لأنها تغمس الحالف بها في المعاصي ، وقيل : في النار .

واختلف الفقهاء هل يجب بها الكفارة أم لا ؟ فمذهب الشافعي : أن الكفارة فيها واجبة ، ووجوبها مقترن بعقدها ، وهو قول عطاء ، والحكم ، والأوزاعي .

وقال أبو حنيفة : لا تجب به الكفارة ، وبه قال مالك ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، وأحمد ، وإسحاق : استدلالا بقول الله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] ، ومنه دليلان :

أحدهما : أن اليمين الغموس هي اللغو ، والعفو عنها متوجه إلى الكفارة .

والثاني : أن قوله : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ المائدة : 89 ] ، وعقد اليمين ما التزم فعلا مستقبلا يتردد بين حنث وبر ، فخرجت اليمين الغموس من الأيمان المعقودة ، فلم يلزم بها كفارة ، ثم ختم الآية بقوله : واحفظوا أيمانكم يعني في المستقبل ، من الحنث .

واستدلوا بما روى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من حلف يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله تعالى وهو عليه غضبان .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : اليمين الغموس تدع الديار بلاقع من أهلها فأخبر بحكمها ولم يوجب الكفارة فيها .

والقياس أنها يمين على ماض فلم تجب بها كفارة كاللغو .

ولأنها يمين محظورة ، فلم تجب بها كفارة كاليمين بالمخلوقات .

قالوا : ولأن اقتران اليمين بالحنث يمنع من انعقادها : لأن حدوثه فيها يدفع عقدها كالرضاع لما رفع النكاح إذا طرأ منع انعقاده إذا تقدم .

ودليلنا : قول الله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم [ المائدة : 89 ] ، بعد صفة الكفارة ، فاقتضى الظاهر لزومها في كل يمين وقال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم [ البقرة : 225 ] ، ولغو اليمين ما سبق به لسان الحالف من غير قصد ولا نية ، واليمين الغموس مقصودة ، فكان بها مؤاخذا ومؤاخذته بها توجب تكفيرها ، فإن منعوا من تسمية الغموس يمينا بطل منعهم [ ص: 268 ] بقول الله تعالى : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر [ التوبة : 74 ] وقال تعالى : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ، [ التوبة : 56 ] .

ومن القياس : أنها يمين بالله تعالى قصدها مختارا : فوجب إذا خالفها بفعله أن تلزمه الكفارة كالمستقبل ولأنه أحد نوعي اليمين ، فوجب أن ينقسم إلى بر وحنث كالمستقبل : ولأن كل ما كان في غير اليمين كذبا كان في اليمين حنثا كالمستقبل : ولأنها يمين تتعلق بالحنث المستقبل ، فوجب أن تتعلق بالحنث الماضي كاليمين بالطلاق والعتاق : لأنه لو حلف بالطلاق والعتاق لقد دخل الدار ، ولم يدخلها لزمه الطلاق والعتاق .

وكما لو حلف ليدخلها في المستقبل ، فلم يدخلها وهذا وفاقا كذلك في اليمين بالله : ولأن وجوب الكفارة في الأيمان أعم في المأثم : لأنها قد تجب فيما يأثم به ولا يأثم ، فلما لحقه المأثم في الغموس كان بوجوب الكفارة أولى .

فأما الجواب عن قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم [ البقرة : 225 ] ، فهو أن لغو اليمين ما لم يقصد منها على ما سنذكره ، فأما المقصود بالعقد فخارج عن حكم اللغو وهو المعقود عليه من أيمانه وهو من كسب قلب المأخوذ بإثمه كما قال تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ، [ البقرة : 225 ] ، ولئن كانت اليمين المستقبلة تتردد بين بر وحنث ، فالغموس مترددة بين صدق وكذب ، فصارت ذات حالين كالمستقبلة ، وإن اختلفت الحالتان .

ألا تراه لو حلف ليصعدن السماء وليشربن ماء البحر حنث لوقته .

وإن لم يتردد يمينه بين حنث وبر ، وكذلك لو حلف ليقتلن زيدا ، وكان زيد قد مات حنث ، ولزمته الكفارة ، وإن لم يتردد يمينه بين بر وحنث وكذب ؛ لأنها مقصودة كذلك يمين الغموس في الماضي .

فأما قوله تعالى : واحفظوا أيمانكم [ المائدة : 89 ] ، فحفظها قبل اليمين أن لا يحلف وبعد اليمين أن لا يحنث ، كما قال الشاعر :


قليل الألايا حافظ لعهده وإن بدرت منه الألية برت

وأما الجواب عن الخبرين فمن وجهين :

أحدهما : أن الإمساك عن الكفارة فيها اكتفاء بما ورد به القرآن من وجوبها .

والثاني : أن المقصود بها حكم الآخرة ، والكفارة من أحكام الدنيا .

[ ص: 269 ] وأما الجواب عن قياسهم على لغو اليمين فهو أن لغو اليمين غير مقصودة فخرج عن اليمين المقصودة .

وأما الجواب عن قياسهم على اليمين بالمخلوقات فهو أنه لا يلزم في جنسها كفارة فخالفت الأيمان بالله .

وأما الجواب عن قياسهم على النكاح ، فهو أنه منتقض بيمينه أن يصعد السماء ثم المعنى في النكاح أن مقصوده الاستمتاع والاستباحة ، فإذا امتنع في النكاح بطل ومقصود اليمين وجوب الكفارة في الحنث وسقوطها في البر ، وهذا موجود في المستقبل والماضي .

التالي السابق


الخدمات العلمية