الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : يمين الكافر منعقدة يتعلق بها الحنث ، وتجب بها الكفارة كالمسلم سواء حنث في حال كفره أو بعد إسلامه ، لكنه إن كفر في حال كفره كفر بالمال من إطعام أو كسوة أو عتق ، ولم يكفر بالصيام فإن أسلم قبل التكفير جاز أن يكفر بالصيام كالمسلم .

وقال أبو حنيفة : يمين الكافر غير منعقدة ، ولا كفارة عليه إذا حنث ، استدلالا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الإسلام يجب ما قبله فكان على عمومه : ولأن الكفارة لا تصح منه : لافتقارها إلى النية بدليل أنها عبادة تفتقر إلى النية ، فلم تصح من الكافر كالصيام والقيام .

ولأن الإطعام والكسوة حد موجبه التكفير ، فوجب أن لا يصح من الكافر كالصيام .

ولأن من لم يصح منه التكفير بالصيام لم يصح منه التكفير بالمال كالصبي والمجنون .

وإذا ثبت بهذه المعاني الثلاثة أن التكفير لا يصح منه وجب أن لا تنعقد يمينه ولا تجب عليه فيها كفارة لأمرين :

أحدهما : أن موجب اليمين الكفارة ، فإذا لم تصح منه لم تجب عليه كالزكاة .

والثاني : أن من لم يصح تكفيره لم تنعقد يمينه كالصبي والمجنون .

ودليلنا عموم قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته [ ص: 270 ] [ المائدة : 89 ] ، الآية فاقتضى ظاهر العموم استواء المسلم والكافر في وجوبه .

ومن القياس : أن كل من صحت يمينه في الدعاوى انعقدت من غير الدعاوى كالمسلم : ولأن كل يمين صحت من المسلم صحت من الكافر كاليمين بالطلاق والعتاق : ولأن كل من صحت يمينه بالطلاق والعتاق صحت يمينه بالله كالمسلم : ولأن كل من صحت يمينه بالله في الإيلاء صحت يمينه بالله في غير الإيلاء كالمسلم .

فإن قيل : إنما صحت يمينه في الإيلاء وبالطلاق والعتاق : لأنه يصح منه موجبه من الطلاق والعتق ، ولم يصح منه موجب اليمين بالله تعالى في التكفير ، فلم تصح منه اليمين بالله تعالى .

قيل : موجب اليمين هو الوفاء بها ، والكفارة حكم تعلق بالحنث ، فلم يمنع من انعقاد اليمين ، وإن أفضت إلى التكفير الذي لا يصح منه ، ألا ترى أن الكافر لو دخل الحرم فقتل فيه صيدا ضمنه بالجزاء ، وإن افتقر إخراج الجزاء إلى نية لم يصح من الكافر ، ولم يسقط عنه الجزاء .

فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام يجب ما قبله فمن وجهين :

أحدهما : أن الخبر يقتضي إسقاط ما وجب ، وعندهم أنه لم يجب ما يسقط .

والثاني : أنه محمول على سقوط المأثم دون المغرم .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن التكفير بالمال لا يصح منه كالصيام ، فهو أن الصيام عبادة محضة فلم تصح من الكافر كالصلاة ، والمال حق ينصرف إلى الآدميين ، فصح من الكافر ، وإن استحقت فيه النية كجزاء الصيد في الحرم ، ولا يمنع إذا لم يصح منه أحد أنواع التكفير أن تجب عليه الكفارة ، ألا ترى أن الحائض لا يصح منها التكفير بالصيام ، ويصح منها التكفير بالمال ، والعبد لا يصح منه التكفير بالمال ، ويصح منه التكفير بالصيام ، والمجنون إنما لا يصح منه التكفير بالمال والصيام : لأنه غير مكلف ، والكافر مكلف ، فلذلك انعقدت يمين الكافر ، وإن لم يعقد يمين المجنون .

وأما الزكاة : فلأنها فرضت على المسلم طهرة ، فخرج منها الكافر ، ولزمته الكفارة عقوبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية