الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وإن قال أقسم بالله " فليس بيمين .

قال الماوردي : وهذا صحيح . إذا لم يذكر اسم الله تعالى ، واقتصر على قوله : أقسم لا فعلت كذا ، فقد اختلف الفقهاء في انعقاده يمينا على ثلاثة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الشافعي أنها لا تكون يمينا سواء أراد اليمين أو لم يردها . والمذهب الثاني : ما قاله أبو حنيفة : تكون يمينا أراد اليمين أو لم يردها .

والمذهب الثالث : ما قاله مالك : إن أراد اليمين كانت يمينا ، وإن لم يرد اليمين لم تكن يمينا ، وهكذا لو قال : أحلف لأفعلن كذا فهو على هذا الخلاف ، وكذلك لو قال : أشهد لأفعلن كذا كان على هذا الخلاف ، فمذهب الشافعي في جميعه أنها لا تكون يمينا حتى يقرنه باسم الله تعالى ، فيقول : أقسم بالله أو أشهد بالله واستدل من جعله يمينا بقول الله تعالى : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين [ القلم : 17 ] . فدل على [ ص: 272 ] أن " أقسمت " يمينا منعقدة ، وقال تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ] ، ثم قال : اتخذوا أيمانهم جنة [ المنافقون : 2 ] . فدل على أن " أشهد " يمين لازمة .

وروى راشد بن ربيعة عن عائشة رضي الله عنها قال : أهدت لنا امرأة طبقا فيه تمر ، فأكلت منه عائشة ، وأبقت فيه تميرات ، فقالت المرأة : أقسمت عليك إلا أكلتيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بريها ، فإن الإثم على المحنث فجعلها يمينا ذات بر وحنث .

وروي عن عبد الله بن صفوان أنه أتى بأبيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه فامتنع عليه ، وقال : لا هجرة بعد الفتح . فقال له العباس : الآن بررت قسمي ، فسماه قسما ؛ ولأن عرف القسم في الشرع والاستعمال يكون بالله تعالى دون غيره ، فوجب أن يكون إطلاقه محمولا على العرفين فيه .

ودليلنا قول الله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين [ النور : 6 ] . واللعان يمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن فدل على أن مطلق الشهادة لا يكون يمينا حتى تقترن بذكر الله .

ومن القياس أنه لفظ عري عن اسم وصفته ، فوجب أن لا تنعقد به يمين توجب الكفارة .

أصله إذا قال : أولي لأفعلن هذا ؛ لأن الألية والقسم واحد ، وقياسا عليه إذا حلف بغير الله من المخلوقات ؛ ولأن اليمين المكفرة إذا كانت بلفظ معظم له حرمة ، فإذا تجرد القسم عن ذكر الله سقطت حرمته ، فسقطت كفارته .

وأما الجواب عن قوله تعالى : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين [ القلم : 17 ] .

فهو أنه إخبار عن القسم ، وليس فيه دليل على صفة القسم ، كما لو قيل : حلف فلان ، لم يكن فيه دليل على ما حلف به .

وأما الجواب عن الخبرين فمن وجهين :

أحدهما : ما ذكرناه .

والثاني : يجوز أن يكون قد حذف ذكر الله منه اقتصارا على العرف فيه .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن إطلاقه محمول على العرفين فيه ، فهو أن العرف من القسم أنه يمين لكن قد يكون بالله تارة وبغير الله أخرى ، كما لو قال : حلفت [ ص: 273 ] يجوز أن يريد بالله ، ويجوز أن يريد بالطلاق والعتاق ، وبما لا تنعقد من المخلوقات ، فلم يجز أن يضاف القسم إلى الله تعالى دون غيره ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية