الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو كانت عليه كفارة ثلاثة أيمان مختلفة فأعتق وأطعم وكسا ينوي الكفارة ، ولا ينوي عن أيها العتق ولا الإطعام ولا الكسوة أجزأه ، وأيها شاء أن يكون عتقا أو طعاما أو كسوة كان ، وإن لم يشأ ، فالنية الأولى تجزئه " .

قال الماوردي : وهو كما قال ، إذا كانت عليه ثلاث كفارات عن ثلاث أيمان مختلفة كان في التكفير عنها بالخيار بين أن يكفر عنها من جنس واحد ، فيطعم عن جميعها ويكسو عن جميعها ، أو يعتق عن جميعها ، وبين أن يكفر عنها من أجناس مختلفة فيطعم عن أحدها ، ويكسو عن أحدها ويعتق عن أحدها ؛ لأن لكل كفارة حكم [ ص: 307 ] نفسها ، وسواء عينها أو أطلقها : لأن عليه النية في الكفارة ، وليس عليه أن يعين عن أي كفارة كالوضوء يلزمه أن ينوي أنه عن الحدث ، ولا يلزمه عن أي حدث .

وقال أبو حنيفة : يلزمه تعيين النية عن أي كفارة ، كما يلزمه تعيين النية للصلاة من ظهر أو عصر ، فيقال له : لما لم يلزمه في قضاء الصلوات الفوائت أن يعين عن أي يوم لم يلزمه في الكفارات أن يعين عن أي حنث ، فلا يكون في إثباته التعيين في الأداء بأولى من نفيه للتعيين في القضاء ، فاستويا ثم ترجح ما ذكرنا باتفاقنا على أنه لو نسي صلاة لم يعرفها بعينها لم يجزه في قضائها أن ينوي قضاء ما وجب عليه ، لعدم التعيين ، ولو كانت عليه كفارة لا يعرف موجبها أجزأه أن ينوي بالتكفير ما وجب عليه ، فعلم أن تعيين النية في الصلاة واجب ، وتعيينها في الكفارة غير واجب .

فأما الفرق بين الطهارة والصلاة في تعيين النية في الصلاة دون الطهارة مع اشتراكهما في وجوب النية فمن وجهين :

أحدهما : ما حكاه أبو القاسم الأنماطي عن المزني قال : قلت للمزني : لم افتقرت الصلاة إلى تعيين النية ، ولم تفتقر الطهارة إلى تعيين النية ، فقال : لأن الصلاة تراد لنفسها ، والطهارة تراد لغيرها ، وهذا صحيح . وهكذا الكفارة تراد لغيرها ، وهو تكفير الحنث ، فلذلك لم يلزم فيها تعيين النية .

والفرق الثاني : قاله أبو علي بن أبي هريرة ، أن الطهارة بسبب متقدم ، وهو ما سبق من الحدث ، فلم يلزم تعيين النية له ، والصلاة لأمر مستقبل ، فجاز أن يلزم تعيين النية فيها ، وهذا صحيح ، وهكذا الكفارة بسبب متقدم ، وهو ما سبق من اليمين ، فلم يعتبر تعيين النية فيها .

فإن قيل : النية في الكفارة أغلظ منها في الطهارة : لأنه لو نوى بطهارته أنها عن نوم ، فكانت عن بول أجزأه ، ولو نوى بعتقه في الكفارة أنه عن ظهار فكان عن قتل لم يجزه ، فجاز أن تتغلظ الكفارة بتعيين النية ، وإن لم تتغلظ بها الطهارة .

قيل : إنما أجزأته الطهارة ولم تجزه الكفارة ، بمعنى آخر ، وهو أن الطهارة ترفع جميع الأحداث لأنها تتداخل ، فكذلك أجزأت في مخالفة التعيين ، والعتق لا يسقط جميع الكفارات ؛ لأنها لا تتداخل ، فلذلك لم تجز في مخالفة التعيين .

التالي السابق


الخدمات العلمية