مسألة : قال  
الشافعي   ، رحمه الله تعالى : " ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد منها " .  
قال  
الماوردي      : وهذا كما قال . لا تنعقد  
جمعتان في مصر  ، ولا يجوز إقامتها إلا في مسجد واحد ، وهو قول  
مالك   وأبي حنيفة      .  
وقال  
أبو يوسف      : إذا كان البلد حارتين انعقدت فيه جمعتان . وقال  
محمد بن الحسن      : تنعقد جمعتان في كل بلد ولا تنعقد ثلاث جمع . وأجروا ذلك مجرى صلاة العيد . وهذا غلط .   
[ ص: 448 ] والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه : أن الجمعة وشرائطها مرتبط بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ومحدود فيه ، فلا يتجاوز حكمها عن شرطه وفعله ، فكان مما وصف به الجمعة وجعله شرطا لها أن عطل لها الجماعات وأقامها في مسجد واحد في أول الأمر ، وعند انتشار المسلمين وكثرتهم ، ثم جرى عليه الخلفاء رضي الله عنهم ، بعده ، ولو جازت في موضعين لأبان ذلك ولو مرة واحدة إما بقوله أو بفعله ؛ ولأنها لا تخلو من أحد أمرين : إما أن يصح انعقادها في كل مسجد إلحاقا بصلاة الجماعة ، أو لا يصح انعقادها إلا في مسجد واحد اختصاصا لها بتعطيل الجماعة إذ ليس أصل ثابت ترد إليه ، فلما لم يصح انعقادها في كل مسجد ثبت أنه لا يصح انعقادها إلا في مسجد واحد .  
ولأنه مصر انعقدت فيه الجمعة فوجب أن لا ينعقد فيه غيرها كالجمعة الثالثة . ولأن الله تعالى أمر بالسعي عند إقامتها ، فلو جاز إقامتها في موضعين لوجب عليه السعي إليهما ، إذ ليس أحدهم أولى بالسعي إليه من الآخر ، وسعيه إليهما مستحيل ، وإلى أحدهما غير جائز ، فدل على فساده .  
ولأن الجمعة من الأمور العامة التي شرط فيها العدد والجماعة ، فوجب أن لا تنعقد في موضعين ، كما لا تنعقد البيعة لإمامين .  
فصل : إذا ثبت ما ذكرنا فالبلاد على ثلاثة أضرب :  
أحدها : ما كان مدنا متقاربة وقرى متدانية اتصلت بنيانها واجتمعت مساكنها  
كبغداد   ، فيجوز أن تقام فيه الجمعة في موضعين وأكثر اعتبارا بحكم أهلها ، وقد دخل  
الشافعي   بغداد   فلم ينكر ذلك عليهم .  
والضرب الثاني من البلاد : ما كان مصرا لم يضم إليه غيره ، ويمكن جميعهم إقامة الجمعة في موضع منه  
كالكوفة   فهذا الذي لا يجوز أن تقام الجمعة في موضعين منه .  
والضرب الثالث من البلاد : ما كان مصرا لم يضم إليه غيره ولكن لا يمكن جميعهم إقامة الجمعة في موضع واحد منه لسعته وكثرة أهله  
كالبصرة   ، فقد اختلف أصحابنا في إقامة الجمعة في موضعين منه على وجهين :  
أحدهما : لا يجوز لما سبق من الدلالة ، ويصلي الناس إذا ضاق بهم في الشوارع والأفنية .  
والوجه الثاني : قاله  
أبو إسحاق المروزي   وأفتى به  
أبو إبراهيم المزني   تجوز إقامة الجمعة في مواضع بحسب الحاجة الداعية إليه : لأنه لو لم يجز لأهل هذا المصر العظيم أن      
[ ص: 449 ] يصلوا إلا في موضع واحد لطال اتصال الصفوف ، ولخرج عن حد المتعارف ، وخفي عليه اتباع الإمام : لأن الإمام إن كبر على العادة لم يصل التكبير إلى آخرهم إلا بعد تكبيره لركن ثان ، فيلتبس عليهم التكبير ، وتختلط عليهم الصلاة ، وإن كبر وانتظر بلوغ التكبير إلى آخرهم طال الزمان ، وتفاحش الانتظار ، فدعت الضرورة إلى إقامتها في مواضع . فزعم بعض البصريين أن  
الجوين   غير  
البصرة   ، وأنها كانت في الأصل دسكرة وأضيفت إلى  
البصرة   وإن كان ذلك جاز إقامة الجمعة بها وجها واحدا والله أعلم .