الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " وإذا كان الصوم متتابعا فأفطر فيه الصائم أو الصائمة من عذر وغير عذر استأنفا الصيام إلا الحائض فإنها لا تستأنف ، وقال في القديم : المرض كالحيض ، وقد يرتفع الحيض بالحمل وغيره كما يرتفع المرض . قال : ولا صوم فيما لا يجوز صومه تطوعا مثل يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق " .

قال الماوردي : وصورتها أن يجب عليه صوم متتابع في كفارة قتل أو ظهار فيفطر في أثناء صيامه ، وإن كان أكثر من باقيه فلا يخلو فطره من أن يكون بعذر أو غير عذر ، فإن أفطر بغير عذر أبطل به التتابع ، ولم يعتد بما تقدم من صيامه ، وإن كان أكثر من باقيه ، واستأنف صوم شهرين متتابعين ، وإن أفطر بعذر فالأعذار ضربان :

أحدهما : ما كان من أعذار الأبدان .

والثاني : ما كان من أعذار الزمان ، فأما أعذار الأبدان فأربعة أعذار :

أحدها : الحيض ، فهو مناف للصوم ، فإذا دخلت المرأة في صيام شهرين متتابعين بكفارة قتل ، ثم حاضت في تضاعيفها لا يبطل به تتابع صيامها ، وتبني على ما مضى من صيامها بعد انقطاع حيضها لعلتين :

إحداهما : أنه فطر بعذر ، لا يقدر معه على الصيام .

والثانية : أن طرق الحيض معتاد لا يسلم لها في العرف صيام شهرين لا حيض فيها .

والعذر الثاني : المرض تفطر به في تضاعيف صيامها ، فهل ينقطع به التتابع أم لا ؟ على قولين :

[ ص: 331 ] أحدهما : وهو القديم أنه يجوز معه البناء ولا ينقطع به التتابع كالحيض ، تعليلا بأنه فطر بعذر ، لا يمكن معه الصوم .

والقول الثاني : وهو الجديد يجب معه الاستئناف ، وينقطع به التتابع ، تعليلا بأنه لا يعتاد استمراره .

والعذر الثالث : الفطر بالسفر .

فإن قيل : إن الفطر بالمرض يقطع التتابع ، فالفطر بالسفر أولى أن يقطعه .

وإن قيل : إن الفطر بالمرض لا يقطع التتابع ففي قطعه بالسفر قولان :

أحدهما : لا يقطعه ويجوز معه البناء ؛ لأنه فطر بعذرين قد جمع الله بينهما في الإباحة .

والقول الثاني : يقطع التتابع ويوجب الاستئناف ؛ لأن فطره بالمرض ضرورة وبالسفر عن اختيار ، ولذلك إذا مرض في يوم كان صحيحا في أوله أفطر ، ولو سافر في يوم كان سقيما في أوله لم يفطر .

والعذر الرابع : أن يطرأ عليه في تضاعيف صيامه جنون أو إغماء ، فإن قيل في المرض يبني فهذا أولى ، وإن قيل في المرض يستأنف ففي الاستئناف بالجنون والإغماء وجهان :

أحدهما : يستأنف كالمريض .

والثاني : يبني ولا يستأنف لأن الصوم مع المرض يصح ، ومع الجنون والإغماء لا يصح ، وأما أعذار الزمان فهو أن يتخلل مدة صيامه زمان لا يجوز صيامه مثل يوم الفطر ، ويوم النحر ، فهذا قاطع للتتابع وموجب للاستئناف ؛ ولأن الاحتراز منه ممكن ، وهكذا لو تخلل صيامه شهر رمضان قطع التتابع ، فأما أيام التشريق فما تقدمه من يوم النحر قطع التتابع ، فأما الابتداء بصيامها في الكفارة فقد كان الشافعي يرى في القديم جواز صيامها في كفارة تمتعه ، لقول الله تعالى : فصيام ثلاثة أيام في الحج [ البقرة : 196 ] ، ثم رجع عنه في الجديد ، ومنع من صيامها للمتمتع وغيره لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامها ، وقوله : إنها أيام أكل وشرب وبعال ، فلا تصوموها فإن منع من صيامها للمتمتع ، كان غير المتمتع أولى بالمنع ، وإن جوز صيامها للمتمتع لم يجز أن تصام تطوعا لغير سبب ، وفي جواز صيامها بسبب موجب وجهان :

أحدهما : يجوز وهو قول أبي إسحاق المروزي كالمتمتع لاشتراكهما في السبب الموجب .

[ ص: 332 ] والوجه الثاني : لا تجزئ لأن صيام التمتع مختص بأيام الحج ، وصيام غيره لا يختص بها ، وأما إذا كان عليه صيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين ، فإن قيل : إن التتابع فيها غير مستحق لم يمنع الفطر في تضاعيفها من جواز البناء .

وإن قيل : إن التتابع فيها شرط مستحق كان الفطر فيها بالحيض قاطعا للتتابع قولا واحدا ، بخلافه في كفارة القتل ؛ لأن التحرز منه بصيامها في أول الطهر ممكن ؛ لأن أقله خمسة عشر يوما ، وإن أفطر فيها بمرض ، كان البناء على قولين كفطره في كفارة القتل ؛ لأن التحرز من هجوم المرض غير ممكن ، وكذلك يكون حكم فطره بالسفر والجنون ، كحكمه في كفارة القتل سواء ، ولا يجزئ صومه في الكفارة إلا بنية قبل الفجر ، وتجدد النية لكل يوم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية