الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي : " ولو وجبت عليه ، ونصفه عبد ونصفه حر ، وكان في يديه مال لنفسه لم يجزئه الصوم ، وكان عليه أن يكفر مما في يديه لنفسه ( قال المزني ) رحمه الله : إنما المال لنصفه الحر لا يملك منه النصف العبد شيئا ، فكيف يكفر بالمال نصف عبد لا يملك منه شيئا ، فأحق بقوله أنه كرجل موسر بنصف الكفارة ، فليس عليه إلا الصوم ، وبالله التوفيق .

قال الماوردي : قال المزني : إذا حنث عن نصفه حر ونصفه عبد لم يخل حاله من أن يكون بنصفه الحر موسرا أو معسرا ، فإن كان معسرا ففرضه التكفير بالصيام ؛ لأنه لما صام بالإعسار مع كمال حريته كان صيامه مع تبعيض الحرية أولى ، وإن كان بنصفه الحر موسرا ، فقد قال الشافعي هاهنا : كفر بالمال فقلب حكم الحرية على حكم الرق في الكفارة ، وإن كان يغلب حكم الرق على حكم الحرية في النكاح والطلاق والنفقة والميراث والشهادة . فاختلف أصحابنا في كفارته على ثلاثة أوجه :

أحدها : وهو قول طائفة منهم أنه يكفر بالمال على قوله في القديم أنه يملك إذا ملك وعليه خرج الجواب ، فأما على قوله في الجديد : إنه لا يملك إذا ملك فلا يكفر إلا بالصيام .

والوجه الثاني : - قاله المزني وساعده غيره من أصحابنا - أنه لا يكفر إلا بالصيام على القولين معا ، وأن ما ذهب إليه الشافعي من تكفيره بالمال مخالف لأصوله من وجهين :

أحدهما : أنه لما غلب فيما عدا الكفارة حكم الرق على الحرية وجب أن يكون كذلك في الكفارة .

والثاني : ما ذكره المزني من أن نقصان المكفر إذا كان بعضه حرا مملوكا كنقصان التكفير ، إذا وجد بعض الإطعام وعدم بعضه ، فوجب أن يكون عجزه ببعض بدنه مع قدرته على جميع الكفارة كعجزه عن بعض الكفارة مع قدرته بجميع بدنه .

والوجه الثالث : وهو ظاهر المذهب وما عليه جمهور أصحابنا ، أنه لا يكفر إلا بالمال على القولين معا ؛ تغليبا لحكم الحرية على الرق ، وإن غلب حكم الرق على الحرية في غير الكفارة ، استدلالا بقول الله تعالى فمن لم يجد فصيام [ المائدة : 89 ] وهذا واحد فلم يجزه الصيام ؛ ولأن تكفير الحر الموسر بالمال وتكفير العبد القن بالصوم ، فلم يخل حال من تبعضت فيه الحرية والرق من ثلاثة أحوال ، إما أن يغلب حكم الحرية من تكفير بالمال ، أو يغلب حكم الرق في تكفيره .

[ ص: 342 ] بالصيام ، أو ببعض تكفيره بالمال والصيام بحسب ما فيه من حرية ورق ، وقد أجمعوا على إبطال التبعيض ، فلم يبق إلا تغليب أحدها فكان تغليب الحرية على الرق في التكفير بالمال أولى من تغليب الرق على الحرية في التكفير بالصيام من وجهين :

أحدهما : أنه لما تغلب حرية بعضه في السراية إلى عتق جميعه تغلب حكمها في تكفيره .

والثاني : أن التكفير بالمال أصل ، وبالصيام بدل ، ولذلك كان لمن فرضه الصيام أن يكفر بالمال ولم يجز لمن فرضه المال أن يكفر بالصيام ، فكان تغليب ما أوجب الأصل من المال أولى من تغليب ما أوجب البدل من الصيام ، أما تغليب الرق فيما سوى ذلك من الأحكام ، فلأن تبعيض الحرية والرق موجب لتغليب أغلظ حكميه ، فكان أغلظهما من الكفارة حكم الجزية ، وأغلظهما فيما عداها حكم الرق .

وأما الجواب عما استدل به المزني من أن نقصان المكفر كنقصان الكفارة ، فهو أن نقصان الكفارة مفض إلى التبعيض فسقط ، ونقصان المكفر موجب لكمال الكفارة ، فافترقا في النقص لافتراقهما في الموجب ، والله أعلم بالصواب ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية