الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وإذا حلف : لأشرب من ماء دجلة ، فشرب من ماء الفرات ، أو لأشرب من ماء الفرات ، فشرب من ماء دجلة لم يحنث ؛ لأن التعيين يخص اليمين ، ولو قال : والله لأشرب ماء الفرات حنث بشربه من دجلة ومن الفرات ؛ لأن الماء الفرات هو العذب ، فحنث بشرب كل ماء عذب .

قال الله تعالى : وأسقيناكم ماء فراتا [ المرسلات : 27 ] ، أي : عذبا ، ولا فرق إذا حلف لأشرب من ماء دجلة بين أن يشربه من إناء اغترف به ، وبين أن يشربه كرعا بفيه كالبهيمة .

فأما إذا حلف ، لا شربت من دجلة ، فإن شرب منها كرعا بفمه حنث بإجماع ، وإن اغترف منها بإناء وشرب من الإناء حنث عند الشافعي .

وقال أبو حنيفة : لا يحنث حتى يكرع منها بفمه ، ولا يبر إن اغترف بيده احتجاجا بأمرين :

أحدهما : أنه لو حلف : لأشرب من هذا الإناء ، فاغترف من مائه ، وشربه لم يحنث كذلك إذا حلف : لا شربت من دجلة ، فاغترف ما شربه من مائها ، لم يحنث بوقوع اليمين على مستقر الماء في الموضعين .

والثاني : أن الشرب منها حقيقة ، ومن مائها مجاز ، وحمل الأيمان على الحقيقة أولى من حملها على المجاز .

ودليلنا أمور :

أحدها : أن الماء المشروب مضمر في اللفظ ؛ لأنه المقصود بالشرب ، كما يقال : شرب أهل بغداد من دجلة وأهل الكوفة من الفرات ، أي من ماء دجلة وماء الفرات ، فصار إضماره كإظهاره ، فلما كان لو حلف : لأشرب من ماء دجلة حانثا ، فشربه منها على جميع الأحوال وجب إذا حلف ، لأشرب من دجلة أن يحنث بشربه منها على كل حال ؛ لأن المضمر مقصود كالمظهر .

[ ص: 383 ] والثاني : أن إجماعنا منعقد على أنه لو حلف : لا شربت من البئر ، ولا أكلت من النخلة أنه يحنث بشرب ما استقاه من البئر ، وبأكل ما لقطه من النخلة ، وإن لم يكرع ماء البئر بفمه ، ولا تناول ثمرة النخلة بفمه ، كذلك الدجلة .

وتحريره قياسا ، أن ما كان حنثا في ماء البئر كان حنثا في ماء الدجلة قياسا على أصلين :

أحدهما : إذا كرع منهما .

والثاني : إذا تلفظ باسم الماء فيهما .

فإن قيل : ماء البئر لا يمكن أن يشرب إلا باستقائه ، وثمر النخلة لا يمكن أن يؤكل إلا بلقاطه .

قيل : يمكن أن يشرب ماء البئر بنزوله إليها ، ويؤكل من النخلة بصعوده إليها ، وإن كان تلحقه المشقة كما يمكن أن يكرع من الدجلة بالمشقة .

والثالث : أن حقيقة الدجلة اسم لقرارها ، والحقيقة في هذا الاسم معدول عنها من وجهين :

أحدهما : أن القرار غير مشروب .

والثاني : أن ما باشر القرار لا يصل إلى كرعه لعمقه ، وإذا سقط حقيقة الاسم من هذين الوجهين وجب العدول إلى مجازه ، وهو الماء ؛ لأن اسم الدجلة حقيقة في قرارها ، ومجاز في مائها ، والمجاز المستعمل أولى من الحقيقة المتروكة .

فأما الجواب عن استدلاله إذا حلف : لا يشرب من هذا الإناء ، فهو أن الإناء آلة للشرب ، فصارت اليمين معقودة عليه ، وليست الدجلة آلة للشرب ، فصارت اليمين معقودة على مائها ، ألا تراه إذا قال : والله لا شربت من هذه الناقة حنث إذا شرب من لبنها ، وإن لم يمتصه من أخلاف ضروعها .

ولو قال : والله لا شربت من هذا الإناء ، فشرب من لبن الإناء بعد إخراجه منه لم يحنث .

وأما الجواب عن استدلالهم بأن الشرب منها حقيقة ، ومن مائها مجاز ، فهو ما قدمناه من أن المجاز المستعمل أولى من الحقيقة المتروكة ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية