الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 384 ] باب من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه ، ففر منه لم يحنث : لأنه لم يفارقه ، ولو قال : لا أفترق أنا وأنت حنث " .

قال الماوردي : وأصل هذا الباب أن كل يمين علقت على فعل فاعل كانت مقصورة على فعله ، ولم تتعلق بفعل غيره ، فيكون البر والحنث معتبرا بفعل من قصد باليمين ، فإذا لازم صاحب الدين غريمه ، وحلف أن لا يفترقا حتى يستوفي حقه لم يخل يمينه من أحد ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يعقدها على فعله .

والثاني : على فعل غريمه .

والثالث : على فعلهما .

فأقام القسم الأول : وهو أن يعقدها على فعله ، فهو أن يقول : والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك ، فالبر والحنث متعلق بفعل الحالف دون المحلوف عليه ، فإن فارقه الحالف مختارا ذاكرا حنث ، وإن فارقه مكرها أو ناسيا ، ففي حنثه قولان ، على ما مضى في حنث المكره والناسي ، فأما إن فارقه الغريم المحلوف عليه ، وفر منه لم يحنث الحالف ، سواء قدر على إمساكه أو لم يقدر ؛ لأن اليمين معقودة على فعله فكان حنثه بأن يكون الفراق منسوبا إلى فعله ، وهذا الفراق منسوب إلى فعل غريمه ، فلم يتعلق به حنث ، ووهم ابن أبي هريرة فخرج حنثه بفراق الغريم على قولين من حنث المكره والناسي ، وهو خطأ لما ذكرنا .

وأما القسم الثاني : وهو أن يعقد يمينه على فعل غريمه ، وهو أن يقول : والله لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك ، فإن فارقه الغريم مختارا ذاكرا حنثه ، وإن فارقه مكرها أو ناسيا ، فقد اختلف أصحابنا في الإكراه إذا كان في فعل المحلوف عليه ، هل يجري مجرى الإكراه في فعل الحالف ؟ على وجهين :

أحدهما وهو قول البغداديين أن الإكراه فيهما على سواء ، فعلى هذا في حنث الحالف قولان .

[ ص: 385 ] والوجه الثاني وهو قول البصريين أن الإكراه معتبر في فعل الحالف وغير معتبر في فعل المحلوف عليه ، فعلى هذا يحنث الحالف قولا واحدا ، فأما إن كان الحالف هو المفارق للغريم فلا حنث عليه : لأن يمينه معقودة على فعل غريمه ، لا على فعل نفسه ، وهذا الفراق منسوب إليه ، وليس بمنسوب إلى الغريم ، فلم يتعلق به حنث .

وأما القسم الثالث : وهو أن يعقد يمينه على فعله ، وفعل غريمه ، وهو أن يقول : والله لا افترقنا أنا وأنت ، أو والله لا فارق واحد منا صاحبه ، حتى أستوفي حقي منك ، فالحنث هاهنا واقع بفراق كل واحد منهما صاحبه ، لانعقاد اليمين على فعلهما ، فإن فارقه الحالف حنث إن كان ذاكرا مختارا ، وفي حنثه إن كان مكرها أو ناسيا قولان ، وإن فارقه الغريم المحلوف عليه ذاكرا مختارا حنث الحالف ، وإن فارقه مكرها أو ناسيا ، ففي حنث الحالف ما قدمناه من خلاف البغداديين والبصريين في معاني هذه الأقسام في اليمين إذا كانت في الكلام أن يقول : والله لا كلمتك ، فإن كلمه الحالف ، حنث لعقد اليمين على كلام الحالف ، وإن كلمه المحلوف عليه لم يحنث ، ولو قال : والله لا كلمتني فكلمه المحلوف عليه حنث ، ولو كلمه الحالف لم يحنث لعقد اليمين على كلام المحلوف عليه ، ولو قال : والله لا تكلمنا أو لا كلم واحد منا صاحبه ، فأيهما كلم الآخر حنث : لأن اليمين معقودة على كلام كل واحد منهما ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية