الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 391 ] باب من حلف على امرأته لا تخرج إلا بإذنه

مسألة : قال الشافعي : " من قال لامرأته أنت طالق إن خرجت إلا بإذني أو حتى آذن لك ، فهذا على مرة واحدة ، وإذا خرجت بإذنه فقد بر ولا يحنث ثانية إلا أن يقول كلما خرجت إلا بإذني ، فهذا على كل مرة " .

قال الماوردي : اعلم أن ألفاظ يمينه إذا حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه ينقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : ما اتفق الفقهاء على أنها تنعقد على مرة واحدة ، ولا توجب التكرار ، وذلك لفظتان " إلى " و " حتى " .

فإذا قال لها : أنت طالق إن خرجت إلى أن آذن لك ، أو حتى آذن لك ، فتنعقد يمينه على خروجها مرة واحدة بإذنه ، فإن خرجت مرة واحدة بإذنه بر ، وانحلت يمينه ولا يحنث ، وإن خرجت بعد ذلك بغير إذنه ، واختلفوا في العلة مع اتفاقهم في الحكم . فعلل أصحاب أبي حنيفة بأنهما لفظتا غاية ارتفع حكمها بانقضائها .

وعلل أصحاب الشافعي رحمه الله بأنهما لما لم يتكررا في الحنث لم يتكررا في البر .

وتأثير هذا الاختلاف في التعليل يتبين في القسم الثالث ، فهذا الحكم القسم الأول .

والقسم الثاني : ما اتفقوا على أنها تنعقد على التكرار في البر والحنث ، وهي لفظة واحدة ، وذلك قوله : كلما دخلت الدار بغير إذني ، فأنت طالق . فلفظة " كلما " موضوعة للتكرار ، فبره يكون بإذنه لها في كل مرة ، وحنثه يكون بأن لا يأذن لها في كل مرة ، وإن خرجت مرة بغير إذنه حنث ، وطلقت واحدة ، ولم تسقط يمينه ، وإن خرجت ثالثة بغير إذنه حنث ، وطلقت ثالثة ، وسقطت يمينه بعدها لاستيفاء ما ملكه من طلاقها .

ولو أذن لها بالخروج ثلاث مرات من ثلاث خرجات بر ، ولم تحل يمينه ، لبقاء الطلاق .

[ ص: 392 ] فإن خرجت رابعة بغير إذنه ، طلقت ، فيقدر الحنث بالثلاث ، ولم يتقدر بها البر ، لاعتبار الحنث بما ملكه من عدد الطلاق ، فلو خرجت مرة بإذنه ، وثانية بغير إذنه ، وثالثة بإذنه ، ورابعة بغير إذنه بر في خرجتين الأولى والثالثة .

وحنث في خرجتين في الثانية والرابعة ثم على هذه العبرة .

والقسم الثالث : ما اختلف فيه : هل تنعقد يمينه على مرة واحدة أو على التكرار ، وذلك فيما عدا القسمين الماضيين من الألفاظ ، وهي خمسة ألفاظ :

أحدها : إن خرجت من الدار إلا بإذني ، فأنت طالق .

والثانية : إن خرجت من الدار إلا أن آذن لك ، فأنت طالق .

والثالثة : إن خرجت من الدار بغير إذني ، فأنت طالق .

والرابعة : أي وقت خرجت من الدار بغير إذني ، فأنت طالق .

والخامسة : متى خرجت من الدار بغير إذني ، فأنت طالق .

فاختلفوا في انعقاد اليمين بهذه الألفاظ هل توجب التكرار في البر والحنث على ثلاثة مذاهب :

أحدها : وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنها تنعقد على مرة واحدة في البر والحنث ، ولا توجب التكرار في بر ولا حنث .

فإن خرجت مرة واحدة بإذن بر وانحلت اليمين ، ولا يحنث إن خرجت بعد ذلك بغير إذن .

وإن خرجت مرة واحدة بغير إذن حنث ، وسقطت اليمين ، ولا يعود الحنث إن خرجت بعده بغير إذن .

والمذهب الثاني : وهو مقتضى مذهب مالك أنها تنعقد على التكرار في البر والحنث ، وإن خرجت مرة بإذن بر ، ولم تحل اليمين ، وإن خرجت مرة بغير إذن حنث ، ولم تسقط اليمين .

والثالث : وهو مذهب أبي حنيفة أنها تنعقد على المرة الواحدة في الحنث ، وعلى التكرار في البر ، فإذا خرجت مرة بغير إذن حنث وسقطت اليمين ، ولم يحنث إن خرجت مرة من بعد بغير إذن .

وإن خرجت مرة بإذن بر ، ولم تحل اليمين ، وحنث إن خرجت بعده بغير إذن . ولأصحابه في هذا طريقان :

[ ص: 393 ] منهم من يرى أن قوله : " إلا بإذني " استثناء يوجب خروج المستثنى ، ولا يتعلق به بر ولا حنث ، وبره بأن يكون لا تخرج ، وحنثه يكون بأن تخرج بغير إذن ، ليكون بارا من وجه واحد ، وحانثا من وجه واحد به ، ولا يكون بارا من وجهين : وحانثا من وجه ، كمن قال لزوجته : إن كلمت زيدا ، فأنت طالق كان بكلامها لزيد حانثا وبترك كلامه بارا ، وبكلامها لغيره غير بار ، ولا حانث ، وهذه أشبه بطريقة المحققين منهم ، وهي فاسدة من وجهين :

أحدهما : أن يمينه تضمنت منعا ، وتمكينا ، فالمنع خروجها بغير إذن ، والتمكين خروجها بإذن .

فلما حنث بالجمع وجب أن يبر بالتمكين ؛ لأن كل واحد منهما قد تضمنته اليمين ، وخالف ما استشهد به من يمينه على كلامها لزيد ؛ لأن كلامها لغيره لم يدخل في يمينه من منع ولا تمكين ، فلم يتعلق به بر ولا حنث .

والثاني : أن البر والحنث يتعلقان في الأيمان بشيء واحد ، فإن كانت على إثبات كقوله : والله لأدخلن الدار ، كان بره بدخولها ، وحنثه بأن لا يدخلها . وإن كانت على نفي كقوله : والله لا دخلت الدار كان بره بأن لا يدخلها وحنثه بأن يدخلها .

فلما كان حنثه في قوله : إن خرجت إلا بإذني ، فأنت طالق ، يكون بخروجها بغير إذنه وجب أن يكون بره بخروجها بإذنه ، فنثبت بهذين المعنيين فساد هذه الطريقة . والطريقة الثانية لهم أن يسلموا وقوع البر بالخروج بإذن كما أن وقوع الحنث بالخروج بغير إذن ، ويستدلوا على وجوب تكرار البر ، وإن لم يتكرر الحنث بأمرين :

أحدهما : إنما انعقد الإجماع عليه في قوله لزوجته : إن خرجت من الدار إلا راكبة فأنت طالق ، أن البر يتكرر ، والحنث لا يتكرر ، ويلزمها أن تخرج في كل مرة راكبة ، وإن خرجت مرة غير راكبة حنث وسقطت اليمين ، وإن خرجت مرة راكبة بر ولم تحل اليمين ، ولزمها الخروج بعد هذا البر راكبة أبدا . كذلك ما اختلفنا فيه من قوله : إن خرجت إلا بإذن ، فأنت طالق ، فخرجت مرة بإذنه ، لم تحل اليمين ، ولزمها أن تخرج كل مرة بإذنه .

ولو خرجت مرة بغير إذنه حنث ، وسقطت اليمين ، فيكون الإجماع في اشتراط الركوب دليلا على الخلاف في اشتراط الإذن ، إذ ليس بين الشرطين فرق في الحكم .

والثاني : أنه لما كان البر يترك الخروج مؤبدا ، والحنث بالخروج من غير إذن مقيدا وجب أن يكون البر بالخروج بالإذن متكررا ، وإن لم يكن الحنث بالخروج بغير إذن متكررا .

[ ص: 394 ] والدليل على فساد هذه الطريقة من وجهين :

أحدهما : لما كان عقد اليمين بلفظ الغاية يوجب استواء البر والحنث في سقوط التكرار ، وكان عقدها بقوله : " كلما " يوجب استواء البر والحنث في وجوب التكرار ، وجب أن يكون عقدها بما اختلفا فيه من قوله : إن خرجت إلا بإذني ، ملحقا بأحدهما في استواء البر والحنث في وجوب التكرار وسقوطه ، فلما سقط التكرار في الحنث وجب أن يسقط التكرار في البر .

وتحريره قياسا : أن كل يمين اشتملت على منع وتمكين وجب أن يكون البر فيها مقابلا للحنث في وجوب التكرار وسقوطه كالمعقود بلفظ الغاية في سقوط التكرار ، وكالمعقودة ب " كلما " في وجوب التكرار .

والثاني : أن البر والحنث في الأيمان معتبران بالعقد ، فإن أوجب تكرار المنع والتمكين أوجب تكرار البر والحنث ، وإن لم يوجب تكرارهما لم يتكرر البر والحنث . ولفظ التكرار معدوم في قوله : إن خرجت إلا بإذني ، فانعقد على مرة ، وموجود في قوله : كلما خرجت بغير إذني ، فانعقد على كل مرة .

ألا تراه لو قال لها : إن خرجت بإذني ، فأنت طالق ، انعقدت على مرة ، ولو قال : كلما خرجت بإذني فأنت طالق ، انعقدت على مرة ، ولو قال : كلما خرجت بإذني انعقدت على التكرار وما انعقدت عليه اليمين سواء في البر والحنث في التكرار والانفراد ؛ لأن عقدها إن قابلت مقتضاها كان حكمها مقصورا عليه .

وتحريره قياسا : أن ما انعقدت عليه اليمين وجب أن يستوي فيه البر والحنث قياسا على تعليق الطلاق بالإذن ، تسوية بين الإثبات والنفي .

فأما الجواب عن استدلالهم بقوله : إن خرجت إلا راكبة ، فهو أن هذا تعليق طلاق بصفة ، وهي خروجها ماشية ، فوقع بوجود الصفة ، وليست يمينا توجب منعا ، وتمكينا ، فافترقا .

وأما الجواب عن اجتماعهم بامتداد البر في المقام إلى الموت ، وتوقيت الحنث بالخروج ، فهو أن المقام في منزلها ترك مطلق ، فحمل على التأبيد في البر ، والخروج فعل مقيد بوقته ، فتقدر به البر والحنث ، فوجب أن يكون البر فيه مساويا للحنث .

التالي السابق


الخدمات العلمية