الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 411 ] باب جامع الأيمان الثاني

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " وإذا حلف لا يأكل الرؤوس فأكل رؤوس الحيتان أو رؤوس الطير أو رؤوس شيء يخالف رؤوس الغنم والإبل والبقر ، لم يحنث من قبل أن الذي يعرف الناس إذا خوطبوا بأكل الرؤوس إنما هي ما وصفنا إلا أن يكون بلاد لها صيد يكثر كما يكثر لحم الأنعام في السوق وتميز رؤوسها ، فيحنث في رؤوسها " .

قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال إذا حلف : لا يأكل الرؤوس ، من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يريد عموم الرؤوس كلها مما انطلق اسم الرأس عليه ، فيحنث بأكل كل ما سمي رأسا مما يفصل من أبدانها ، كرؤوس الغنم أو لا يفصل كرؤوس الطير ، والحيتان ، اعتبارا بمراده فيما انطلق عليه حقيقة الاسم .

والقسم الثاني : أن يريد تخصيص نوع من الرؤوس بعينها دون ما عداها ، فيحنث بأكلها وحدها ، سواء انفصل في العرف أو لم ينفصل ، ولا يحنث بأكل ما عداها ، اعتبارا بمراده في التخصيص .

والقسم الثالث : أن يطلق اسم الرؤوس ، ولا تكون له إرادة في عموم ، ولا تخصيص ، فلا خلاف بين الفقهاء أنه لا يحمل على العموم في ما انطلق اسم الرأس عليه ، فلا يحنث بأكل رؤوس الطير والحيتان والجراد ، وإن اتفق عليها حقيقة اسم الرؤوس بخروجه عن العرف ، فصارت الحقيقة مخصوصة بالعرف ، كما خصت الأرض فيمن حلف لا يقعد على بساط بالعرف ، وكما خصت الشمس فيمن حلف لا يقعد في سراج بالعرف . وإذا كان الحنث معتبرا فيها بالعرف دون الحقيقة ، فقد اختلف الفقهاء فيما يحنث به من أكل الرؤوس عند إطلاقها .

فذهب الشافعي - رضي الله عنه - إلى أنه يحنث بأكل رؤوس النعم من الإبل والبقر والغنم ، ولا يحنث بغيرها من رؤوس الطير والحيتان ، وهو عرف الحجاز ، لأنهم يفصلون رؤوس هذه الثلاثة من أجسادها ، ويفردون بيعها في أسواقها .

[ ص: 412 ] وقال أبو حنيفة : يحنث بأكل رؤوس البقر والغنم ، ولا يحنث بأكل رؤوس الإبل ، وهو عرف أهل الكوفة ، لاختصاصهم بإفراد رؤوس هذين النوعين بالبيع بعد انفصالها دون رؤوس الإبل ، وتعليلا بأن رؤوس الغنم تشوى وتكبس ، ورؤوس البقر تكبس ولا تشوى ، ورؤوس الإبل لا تشوى ولا تكبس .

وقال أبو يوسف ومحمد : لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم وحدها ، اعتبارا بعرف بغداد ، وتعليلا بأنها تشوى وتكبس ، ولا يجمع الأمران في غيرها ، وكلا التعليلين دعوى مدفوعة ، لوجود الأمرين في الثلاثة كلها .

واختلف أصحابنا في تعليل ما ذهب إليه الشافعي - رضي الله عنه - من حنثه برؤوس الثلاثة كلها على وجهين يحتملهما كلام الشافعي :

أحدهما : لاختصاصها بقطع رؤوسها عن أجسادها ، وإفراد بيعها في أسواقها ، فعلى هذا إن كان في بلاد الفلوات يكثر فيها الصيد وتقطع رؤوسه من أجساده ، ويفرد بيعه في أسواقه أو كان في بلاد البحار بلد يكثر فيه الحيتان وتقطع رؤوسها عن أجسادها ، ويفرد بيعها في أسواقها حنث أهلها بأكل رؤوسها ، كما يحنث أهل أمصار الريف بأكل رؤوس الغنم ، فعلى هذا هل يكون عرف هذه البلاد المختلفة مقصورا على أهلها أو عاما فيهم ، وفي الطارئ إليها ؟ على وجهين :

أحدهما : أنه خاص في أهلها دون الطارئ إليها ، تغليبا لعرف الحالف ، فإن دخل أهل الريف إلى بلاد الفلوات والبحار لم يحنثوا إلا برؤوس الغنم ، وإن دخل أهل الفلوات إلى أمصار الريف لم يحنثوا إلا برؤوس الصيد ، وإن دخل أهل البحار إلى أمصار الريف لم يحنثوا إلا بأكل رؤوس الحيتان .

والوجه الثاني : أنه عام في أهلها ، وفي الطارئ إليها ؛ تغليبا لعرف المكان ، فإن دخل أهل الريف إلى بلاد الفلوات ، حنثوا برؤوس الصيد ، وإن دخلوا إلى بلاد البحار حنثوا برؤوس الحيتان .

وإن دخل أهل الفلوات والبحار إلى بلاد الريف حنثوا برؤوس النعم .

وفي بقاء حنثهم بعرف بلادهم وجهان :

أحدهما : أنه باق عليهم لاستقراره عندهم ، فعلى هذا يحنث أهل الريف في بلاد الفلوات بأكل رؤوس الصيد ، وبأكل رؤوس النعم ، ويحنثون في بلاد البحار بأكل [ ص: 413 ] رؤوس الحيتان مع رؤوس النعم ، ويحنث أهل الفلوات ، في بلاد الريف بأكل رؤوس النعم ، وأكل رؤوس الصيد ، ويحنث أهل البحار فيها بأكل رؤوس الحيتان ، وبأكل رؤوس النعم .

والوجه الثاني : أنه يزول عنهم في بلادهم بانتقالهم عنها ، فلا يحنث أهل الفلوات والبحار في بلاد الريف إلا برؤوس النعم .

ولا يحنث أهل الريف في بلاد الفلوات إلا برؤوس الصيد ، وفي بلاد البحار إلا برؤوس الحيتان .

فهذا حكم التعليل في هذا الوجه الأول .

والوجه الثاني : في تعليل حنثه برؤوس النعم أن عرف كلامهم يتوجه إليها ، وإفراد أكلها مختص بها ، فإنه لا يعرف ممن قال : أكلت الرؤوس إلا رؤوس النعم ، وغيرها يؤكل مع أجسادها .

وفي التعليل تميز من وجه ، وامتزاج من وجه ، فعلى هذا هل يكون عرف البلد خاصا فيه أو عاما في جميع البلاد ، على وجهين :

أحدهما : وهو الظاهر من مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه يصير عاما في البلاد كلها ، فيحنث جميعهم برؤوس النعم الثلاثة .

وإن عرفنا أن لبعض البلاد عرفا في البلاد كلها ، فيحنث جميعهم برؤوس النعم الثلاثة ورؤوس الصيد والحيتان ، حنث جميع الناس ، وإن لم يعلمه لم يحنثوا .

والشافعي - رضي الله عنه - إنما خص الحنث برؤوس النعم الثلاثة ، لأنه لم يعلم عرف بلد في غيرها ، ولو علم لحنث بها جميع الناس كما حنث برؤوس النعم ، ولذلك حنث القروي إذا حلف لا يسكن بيتا ، فسكن بيتا من بيوت البادية ، لأن عرف البادية جار به ، كما أن الخليفة لو حلف لا يأكل الخبز وعادته خبز البر ، فأكل خبز الشعير ، حنث به ، لأن عرف أهل الفاقة جار به .

والوجه الثاني : وهو قول أبي العباس بن سريج ، أن عرف كل بلد مخصوص في أهله مقصور عليهم دون غيرهم .

فعلى هذا يحنث أهل الحجاز برؤوس النعم الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ، كما قال الشافعي رضي الله عنه اعتبارا بعرفهم ويحنث أهل الكوفة برؤوس البقر والغنم ، ولا يحنث برؤوس الإبل اعتبارا بعرف أهلها . قال أبو حنيفة : ويحنث أهل بغداد والبصرة برؤوس الغنم ، ولا يحنثون برؤوس البقر والإبل ، كما قال أبو يوسف ومحمد [ ص: 414 ] اعتبارا بعرفهم . وهذا قول من لم يحنث القروي بسكنى بيت الشعر .

فإن انتقل أهل بلد لهم فيه عرف إلى بلد يخالفونهم في العرف ، ففيما يحنثون به ثلاثة أوجه هي مجموع ما شرحناه :

أحدها : يحنثون بعرف بلدهم الذي انتقلوا عنه .

والثاني : يحنثون بعرف البلد الذي انتقلوا إليه .

والثالث : يحنثون بعرف البلدين معا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية