الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الاسم المفسر فضربان ، خاص وعام .

فأما الخاص فضربان :

أحدهما : ما كان له حقيقة ومجاز ، كالسراج حقيقة ما استصبح به من النار ومجازه الشمس ، والبساط حقيقة الفرش المبسوط ، ومجازه الأرض ، فينقسم في الأيمان خمسة أقسام :

أحدها : أن يريد به الحقيقة دون المجاز ، فيحمل على حقيقة ظاهره لفظا ومعتقدا ، سواء كان ما أراده من الحقيقة شرعيا أو لغويا ، فإذا حلف لا يأكل الزبد لم يحنث باللبن ، وإذا حلف لا يأكل التمر لم يحنث بالرطب ، وعلى هذا القياس .

والقسم الثاني : أن يريد به المجاز دون الحقيقة ، فيريد بالسراج الشمس دون المصباح ، وبالبساط الأرض دون الفرش ، وباللحم السمك دون اللحم ، وبلمس الزوجة وطئها دون ملامستها ، فإن كانت يمينه بالله تعالى حملت على المجاز دون الحقيقة في الظاهر والباطن ؛ لاستثناء الحقيقة بنيته ، وإن كانت بطلاق أو عتاق حملت على المجاز في الباطن ، وحملت على أغلظ الأمرين في الظاهر ، وسواء ما كان ما أراده من المجاز شرعيا أو لغويا .

والقسم الثالث : أن يريد به الجمع بين حقيقته ومجازه ، فيحمل عليها من بره وحنثه ، لأنه أغلظ من حمله على أحدهما ، فحمل السراج على المصباح والشمس ، ويحمل البساط على الفرش والأرض ، ويحمل اللحم على السمك واللحم ، ويحمل [ ص: 432 ] مس الزوجة على وطئها وملامستها ، وسواء كانت يمينه بالله أو بطلاق وعتاق .

والقسم الرابع : أن يريد به غير حقيقته ومجازه ، كمن أراد بالسراج غير المصباح والشمس ، وأراد بالبساط غير الفرش والأرض ، فلا يحمل على ما أراد غير الحقيقة والمجاز ، لخروجه عن مقتضى لفظه من صريح وكناية ، كمن أراد الطلاق بما ليس بصريح ولا كناية ، ولا يحمل على المجاز ، لتجرده عن نية كالطلاق بالكناية إذا لم يقترن بنية .

فأما حمله على الحقيقة ، فإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق ، حملت على الحقيقة في الظاهر لا من الباطن ، وكانت لغوا لا يتعلق بها بر ولا حنث .

وقال مالك ومحمد بن الحسن : أحمل يمينه على إرادته ، وإن خرج عن الحقيقة والمجاز إذا اقترن لها ضرب من الاحتمال .

وقال مالك فيمن قال لغيره : والله لا شربت لك ماء من عطش ، حنث بأكل طعامه ، ولبس ثوبه ، وركوب دابته ، ودخول داره .

وقال محمد بن الحسن فيمن قال لغريمه : والله لأجرنك على الشوك : حنث بمطله وتأخير دينه اعتبارا بمخرج الكلام ومقصوده ، وهذا فاسد ، لأن ما خرج عن الحقيقة والمجاز صار مختصا بمجرد النية ، والنية لا تتعلق بها يمين ، كما لو نوى يمينا ، فليست بيمين .

والقسم الخامس : أن تتجرد يمينه عن نية وإرادة ، فيحمل في البر والحنث على الحقيقة دون المجاز ، لأن افتقار المجاز إلى النية يسقط حكمه إذا تجرد عن نية ، مثل كنايات الطلاق إذا لم تقترن بها نية .

فإن اختلف الشرع واللغة في حقيقته ومجازه ، كالنكاح هو في الشرع حقيقة في العقد ، ومجاز في الوطء ، وهو في اللغة حقيقة في الوطء ، ومجاز في العقد ، كالصلاة هي الشرع حقيقة في الدعاء في ذاته الركوع والسجود ، ومجاز في الدعاء ، وهي في اللغة حقيقة في الدعاء مجاز في غيره ، وكذلك الزكاة والصيام والحج ، فيحمل على حقيقته في الشرع دون اللغة ، لأن الشرع ناقل ، فيحمل النكاح على العقد دون الوطء ، وتحمل الصلاة على ذات الركوع والسجود دون الدعاء .

فقد ترتب على هذا الأصل ما قدمناه فيمن حلف لا يأكل الدقيق ، فأكل الخبز لم يحنث ، ولو حلف لا يشم البنفسج فشم دهن البنفسج لم يحنث ، ولو حلف لا يضرب عبده ، فعضه لم يحنث حملا له على الحقيقة دون المجاز ، وحنثه أبو حنيفة بالأمرين استعمالا للحقيقة والمجاز .

[ ص: 433 ] والضرب الثاني في الاسم الخاص : أن تكون له حقيقة وليس له مجاز ، فهو على أربعة أقسام : مبهم ، ومعين ، ومطلق ، ومقيد .

فالمبهم أن يقول : لا كلمت رجلا ، فيحنث بكل من كلمه من الرجال ، ولا يحنث بكلام صبي ولا امرأة .

والمعين أن يقول : لا كلمت زيدا ، فيحنث بكلامه صغيرا كان أو كبيرا ، ولا يحنث بكلام غيره .

والمطلق أن يقول : لا شربت ماء ، فإطلاقه أن لا يذكر له قدرا ، ولا يعين له زمانا أو مكانا ، فيحنث بشربه في كل مكان وزمان إذا شربه صرفا ، فإن مزجه بغيره حنث إذا غلب على غيره بلونه وطعمه ، ولم يحنث إذا غلب عليه غيره بلونه وطعمه ، كمن حلف لا يأكل خلا ، فأكل سكباجا ، أو لا يأكل سمنا ، فأكل عصيدا .

والمقيد على ثلاثة أضرب : مقيدا بمكان كقوله : لا شربت بالبصرة ، فلا يحنث بشربه في غيرها .

ومقيدا بزمان كقوله : لا شربته شهرا ، فلا يحنث بشربه بعده .

ومقيدا بصفة كقوله : لا شربته صرفا ، فلا يحنث بشربه ممزوجا .

وإذا كان كذلك حنث بالمبهم في المعين ، ولم يحنث في المعين بالمبهم ، وحنث في المطلق بالمقيد ، ولم يحنث في المقيد بالمطلق لعموم المبهم والمطلق وخصوص المعين والمقيد ، فإن أراد بالمبهم معينا ، وبالمطلق مقيدا حمل على إرادة لفظه ، فجعل المبهم معينا ، والمطلق مقيدا في الظاهر والباطن إن كان حالفا بالله ، وفي الباطن دون الظاهر إن كان حالفا بالطلاق والعتاق ، لأنه استثنى بعض ما شمله عموم الجنس ، فصار كتخصيص العموم في النصوص الشرعية ، فلا يحنث في إبهام قوله : لا كلمت رجلا ، وقد أراد زيدا إلا بكلامه دون غيره من الرجال ، ولا يحنث في إطلاق قوله : لا شربت ماء ، وقد أراد شهرا ألا يشربه فيه دون غيره من الشهور .

فأما عكس هذا إذا أراد بالمعين مبهما ، وبالمقيد مطلقا حمل على لفظه في التعيين والتقييد ، ولم يحمل على إرادته في الإبهام والإطلاق ، لأن ما يجاوز المعين والمقيد خارج من لفظ اليمين فصار مرادا بغير يمين ، فلا يحنث في تعيين قوله : لا كلمت زيدا هذا ، وقد أراد كل الرجال إلا بكلام زيد وحده ، ولا يحنث في تقييد قوله : لا شربت الماء في شهري هذا ، وقد أراد كل الشهور على الأبد أن لا يشربه فيه وحده .

وتعليله بما ذكرنا وشاهده من الطلاق أن يقول لامرأته : أنت طالق واحدة ، يريد بها ثلاثا ، فتطلق واحدة ولا تطلق ثلاثا ، لأنه قد صرح بنفيها من لفظه ، فلم تقم بمجرد [ ص: 434 ] إرادته فافترق حكم العكسين ، لافتراق العلتين ، فهذا أصل يحمل عليه الكلام في أحكام الأيمان في الأسماء والخاصة في الحقيقة والمجاز .

التالي السابق


الخدمات العلمية