الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما الاسم العام فضربان :

أحدهما : عام اللفظ عام المراد .

والثاني : عام اللفظ خاص المراد .

فأما الضرب الأول ، فهو ما كان عام اللفظ عام المراد ، فينقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : ما كان عمومه في لفظه ومعناه .

والثاني : ما كان عمومه في لفظه دون معناه .

والثالث : ما كان عمومه في معناه دون لفظه .

فأما القسم الأول ، وهو ما كان عمومه في لفظه ومعناه ، فمثل قوله : والله لا كلمت الناس ، فيحمل على عموم لفظه ومعناه في حنثه بكلام كل إنسان من صغير وكبير ذكر وأنثى بكل نوع من الكلام من سليم وسقيم .

ومثله في التنزيل قوله تعالى : إن الله بكل شيء عليم [ العنكبوت : 62 ] وقياسه في الأيمان أن يقول : والله لا أكلت اللحم ، فيحمل على عموم لفظه ومعناه ، فيحنث بكل نوع من اللحم على كل صفة من الأكل ثم على هذا القياس .

وأما القسم الثاني : وهو ما عمومه في لفظه دون معناه ، فمثل قوله : والله لا أكلت الحنطة ، فيحنث لكل نوع من الحنطة ، ولا يحنث بأكل ما حدث عن الحنطة من دقيق وسويق وخبز . وكذلك قوله : لا أكلت الرطب يحنث بكل نوع من الرطب ، ولا يحنث بما حدث من الرطب عن تمر وبسر .

وقوله : لا أكلت اللبن يحنث بكل نوع من اللبن ، ولا يحنث بما حدث عن اللبن من جبن ومصل وزبد وسمن ، فيصير ذلك محمولا على عموم لفظه دون معناه ، وهذا مختص بما إذا تغير عن حاله ، وزال عن اسمه ، فاجعل ذلك قياسا مطردا في نظائره .

وأما القسم الثالث : وهو ما كان عمومه في معناه دون لفظه ، فمثل قوله : والله لا أكلت عسلا ، فأكل خبيصا فيه عسل ، ولا أكلت دقيقا ، فأكل خبيصا فيه دقيق ، ولا أكلت سمنا ، فأكل خبيصا فيه سمن ، حنث في هذه كلها ، لأن في الخبيص عسلا ودقيقا وسمنا ، فيصير ذلك محمولا على عموم معناه دون لفظه ، وهذا مختص بما إذا حدث له اسم بالمشاركة لم يزل الاسم الخاص عن كل نوع منها ، لأنه لا يسمى [ ص: 435 ] خبيصا إلا باجتماعها ، ولا يزول اسم كل نوع عنه ، لأنه يقال هذا خبيص فيه عسل ، وفيه دقيق ، وفيه سمن .

فإن قيل : أفليس لو قال : لا أكلت دقيقا وأكله خبزا لم يحنث ؟ فهلا كان في الخبيص كذلك قيل : لوقوع الفرق بينهما بأنهم يقولون : هذا خبيص فيه دقيق ، ولا يقولون : هذا خبز فيه دقيق فصار اسم الدقيق في الخبيص باقيا ، وفي الخبز زائلا ، فلذلك ما افترقا في حكم الحنث ، فاجعل ذلك قياسا مطردا في نظائره .

فهذا حكم الضرب الأول فيما كان عام اللفظ عام المراد .

وأما الضرب الثاني : وهو ما كان عام اللفظ خاص المراد ، فهو ما خص عموم لفظه بسبب أوجب خروجه عن عمومه ، كما خص عموم الكتاب بالسنة .

وتخصيص اللفظ العام في الأيمان يكون من خمسة أوجه :

أحدها : تخصيص عمومه بالمعقول .

والثاني : بالشرع .

والثالث : بالعرف .

والرابع : بالاستثناء .

والخامس : بالنية .

فأما الوجه الأول : في تخصيص عمومه بالمعقول ، فهو ما امتنع استيفاء عمومه في العقل كقوله : والله لآكلن الخبز ، ولأشربن الماء ، ولأكلمن الناس ، ولأتصدق على المساكين ، لما امتنع في العقل أن يأكل كل الخبز ، ويشرب كل الماء ، ويكلم جميع الناس ، ويتصدق على جميع المساكين ، خص العقل عموم الجنس ، فتعلق البر والحنث بأكل بعض الخبز ، وشرب بعض الماء ، وكلام بعض الناس ، والتصدق على بعض المساكين .

ثم هذه الأجناس ضربان : معدود وغير معدود .

فأما غير المعدود فكالخبز والماء ، فيتعلق البر والحنث بقليل الجنس وكثيره ، فأي قدر أكله من الخبز ، وأي قدر شربه من الماء بر به في الإثبات ، وحنث به في النفي ، لأنه لما سقط بالمعقول حكم العموم ، ولم يتقدر بعضه بعرف ولا معقول ، روعي فيه ما انطلق عليه الاسم .

وأما المعدود فكالناس والمساكين ، فإن كان يمينه على إثبات كقوله : لأكلمن الناس ولأتصدق على المساكين ، لم يبر حتى يكلم من الناس ثلاثة ، ويتصدق على ثلاثة من المساكين ، اعتبارا بأقل الجمع ، وإن كانت يمينه على نفي كقوله : لا كلمت [ ص: 436 ] الناس ، ولا تصدقت على المساكين ، حنث بكلام واحد من الناس ، وبالصدقة على واحد من المساكين ، اعتبارا بأقل العدد في النفي .

والفرق بينهما في اعتبار أقل الجمع في الإثبات واعتبار أقل العدد في النفي أن نفي الجميع ممكن ، وإثبات الجميع ممتنع .

وأما الوجه الثاني : في تخصيص العموم بالشرع فضربان :

أحدهما : تخصيص اسم .

والثاني : تخصيص حكم .

فأما تخصيص الاسم فكالصيام ، في اللغة هو : الإمساك عن الطعام والكلام والشراب ، ثم خصه الشرع بالإمساك عن الطعام والشراب في النهار ، ويكون عمومه في اللغة محمولا على خصوصه في الشرع ، فإذا عقد يمينه على الصيام لم يتعلق البر والحنث إلا بالصوم الشرعي ، وصار عموم اللفظ بالشرع مخصوصا .

وكذلك الحج في اللغة هو القصد إلى كل جهة ، وخصه الشرع بقصد البيع الحرام لأفعال الحج ، فلا يتعلق البر والحنث في انعقاد يمينه على الحج إلا بخصوص الشرع دون عموم اللغة .

وعلى هذا قياس نظائره .

وأما تخصيص الحكم ، فكلحم الخنزير ، خص بالتحريم من عموم اللحوم المباحة ، ففي تخصيص العموم به في الأيمان وجهان :

أحدهما : يختص عمومها بالحكم الشرعي ، كما خص بالاسم الشرعي ، فلا يحنث إذا حلف لا يأكل اللحم بأكل اللحوم المحرمة .

ولو حلف ليأكلن اللحم لم يبر بأكل اللحوم المحرمة .

لو حلف : لا وطئ لم يحنث بالوطء في الدبر .

ولو حلف أنه يطأ لم يبر إلا بالوطء في القبل ، ويبر ويحنث بوطء الزنا ، لأنه من جنس المباح .

ويتفرع عليه إذا حلف لا يتيمم ، كان محمولا على تيمم أعضائه بالتراب ، دون ما هو موضوع عليه في اللغة من القصد .

فإن تيمم لمرض أو في سفر حنث ، وإن تيمم بالقصد إلى جهة لم يحنث ، ثم على هذا القياس .

والوجه الثاني : أنه لا يتخصص عموم الأيمان بالأحكام الشرعية ، لاتفاق أحكام الأيمان في الحظر والإباحة ، اعتبارا بما انعقدت عليه ، فتحمل على عمومها فيما حل [ ص: 437 ] وحرم ، اعتبارا بالاسم دون الحكم ، فيحنث في اللحم بكل لحم ، وفي الوطء بكل وطء ، ثم على هذا القياس في نظائره .

وأما الوجه الثالث : في تخصيص العموم بالعرف فضربان : عام وخاص .

فأما العرف العام ، فكمن حلف لغيره : لأخدمنك الليل والنهار ، فيخص بالعرف من خدمة النهار زمان الأكل والشرب والطهارة والصلاة والاستراحة بحسب ما يخدم فيه من شاق وسهل ، ومن خدمة الليل وقت النوم والمألوف ، فإن ترك الخدمة فيها لم يحنث ، لخروجها بالعرف من عموم يمينه .

وإن ترك الخدمة في غيرها من الأوقات حنث ، لدخولها في عموم يمينه ، ولو حلف لأضربنك الليل والنهار خرج بالعرف من زمان النهار ما ذكرناه من زمان الاستراحة في الخدمة ، فلا يكون بترك الضرب فيها حانثا ، وخرج بالعرف من بقية الزمان في الضرب خصوصا في الوقت الذي يكون ألم الضرب فيه باقيا ، فيكون بقاء ألمه كبقاء فعله ، فإن ترك ضربه مع بقاء الألم لم يحنث ، وإن تركه مع زوال الألم حنث ، لأن من دوام فعله أن تتخلله فترات في العرف ، فاعتبر بدوام ألمه الحادث عنه . ولو قال : والله لا وضعت ردائي عن عاتقي انعقدت يمينه على لزوم لبسه في زمان العرف ، فإن نزعه عن عاتقه في زمان الليل أو دخول الحمام أو عند تبذله لم يحنث لخروجه بالعرف عن زمان لبسه ، وإن نزعه في غيره حنث لدخوله في عرف لبسها .

فلو قال لغريمه : والله لا نزعت ردائي عن عاتقي حتى أقضيك دينك ، حنث بنزعه قبل قضاء دينه في زمان العرف وغيره ، والفرق بينهما أن جعله في الإطلاق مقصودا في قضاء الدين شرط والعرف معتبر في الأيمان دون الشروط .

ولو قال لغريمه : والله لأخدمنك حتى أقضيك دينك ، لم يحنث بترك الخدمة في زمان الاستراحة ، قبل القضاء ، لأنه جعل الخدمة خبرا ، ولم يجعلها شرطا ، ثم على قياس هذا في نظائره .

وينساق على هذا الأصل إذا حلف لا يأكل الرؤوس أنه لا يحنث برؤوس غير الغنم ، لخروجها بالعرف من عموم الاسم ، وإذا حلف لا يأكل البيض لم يحنث ببيض السمك والجواد ، وكذلك في نظائره .

ويطرد على هذا القياس إذا حلف لا يلبس هذا القميص ، حنث بلبسه إذا تقمص به ، ولم يحنث بلبسه إذا ارتدى به ، وإذا حلف : لا يلبس هذا الخاتم حنث بلبسه في [ ص: 438 ] الخنصر ، ولم يحنث بلبسه في الإبهام اعتبارا بالعادة ، وتخصيصا بالعرف .

وأما العرف الخاص فكقوله : والله لا قتلت ، ولا ضربت ، فأمر بالقتل والضرب ، حنث به الملوك دون السوقة ، لأن العرف في أفعال الملوك الأمر بها ، وفي أفعال السوقة مباشرتها . ولو قال : والله لا نسجت ثوبا ، فاستنسجه حنث به من لا يحسن النساجة ، ولم يحنث به من يحسنها ، ولو قال : والله لا تصدقت حنث الأغنياء بدفعها ، وحنث الفقراء بأخذها اعتبارا بالعرف من الفريقين .

ولو قال : والله لا طفت ولا سعيت حنث أهل مكة بالطواف بالبيت ، وبالسعي بين الصفا والمروة ، وحنث غيرهم بالسعي على القدم ، والطواف في الأسواق ، وحنث أهل الوشاة بالسعي إلى الولاة .

ولو قال : والله لا ختمت ، حنث القارئ بختم القرآن ، وحنث التاجر بختم كيسه ، لأنه عرف كل واحد منهما .

ولو قال : والله لا قرأت ، حنث بقراءة القرآن ، ولم يحنث بقراءة الشعر . ولو قال والله لا تكلمت حنث بجميع الكلام ، بإنشاد الشعر ، ولم يحنث بقراءة القرآن على مذهب الشافعي ، لخروجه بالإعجاز عن جنس الكلام الذي ليس فيه بإعجاز وقال أبو حنيفة : يحنث بالقرآن من غير الصلاة ، ولا يحنث به في الصلاة ، وليس لاختلاف الحالين تأثير فيه إن كان من جنس الكلام أو لم يكن ، فلم يكن للفرق بين الحالين وجه . فهذا حكم المخصوص بالعرف ، فقس عليه نظائره .

وأما الوجه الرابع : في تخصيص العموم بالاستثناء ، فهو القول المخرج من لفظ اليمين بعض ما اشتملت عليه ، وله شرطان : أحدهما : أن يكون متصلا بها ، فإن انفصل عنها بطل .

والثاني : أن يخالف حكم اليمين ، فإن كانت على نفي كان الاستثناء إثباتا ، وإن كانت على إثبات كان الاستثناء نفيا واختلف أصحابنا في هذا الاستثناء هل يفتقر إلى اعتقاده في أول اليمين على وجهين : أحدهما : أن اعتقاده مع أول اليمين شرط في صحته ، وإن لم يعتقده بطل حكمه فيما بينه وبين الله تعالى ، وإن كان حكمه في الظاهر صحيحا .

[ ص: 439 ] والوجه الثاني : أنه إذا اتصل باليمين المقصودة جرى عليه حكمها ، وصح بمجرد لفظه في الظاهر والباطن .

وحكم هذا الاستثناء أن يخرج من يمينه بعض جملتها ، فلا تنعقد عليه اليمين ولا يتعلق به فيها بر ولا حنث ، وهو على أربعة أضرب :

استثناء مكان ، واستثناء زمان ، واستثناء عدد ، واستثناء صفة ، وفي ذكر أحدها بيان لجميعها .

فإذا قال : والله لأضربن زيدا إلا في داري بر إن ضربه في غير داره ، ولم يبر إن ضربه في داره ، وحنث إن لم يضربه في غير داره ، ولا يحنث إن لم يضربه في داره . ولو قال : والله لا ضربت زيدا إلا في داري ، حنث إن ضربه في غير داره ، ولم يحنث إن ضربه في داره ، وبر إن لم يضربه في غير داره ، ولا يبر إن لم يضربه في داره ، ثم على هذا القياس في نظائره .

وأما الوجه الخامس : في تخصيص العموم بالنية ، فهو أن ينوي بقلبه في عقد يمينه ما يصح أن يذكره بلفظه ، فيحمل فيها على نيته إذا اقترنت بعقد يمينه ، ولا تصح إن تقدمت النية على اليمين أو تأخرت عنها ، وذلك مثل قوله : والله لا كلمت زيدا ، وينوي به شهرا ، ولا أكلت خبزا ، وينوي به ليلا ، ولا لبست ثوبا ، وينوي به قميصا ، وقد ذكرنا من نظائره ما أغنى ، فيكون في الأيمان بالله تعالى محمولا على نيته في الظاهر والباطن ، وفي الأيمان بالطلاق والعتاق محمولا عليها في الباطن والظاهر ، فهذا أصل في الأيمان لا يخرج أحكامها منه ، فإذا حملت عليه سلمت من الخطأ والزلل ، والله يوفق من استرشده .

وسأتبعه من الفروع بما توضحه من متفق عليه ومختلف فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية