الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : ولو قال : والله لا أكلت أدما حنث بأكل اللحم والسمك والجبن والملح والزيتون ، وبما يصطبغ به كالخل والزيت واللبن والسمن .

وقال أبو حنيفة : لا يحنث إلا بما يصطبغ به ، وهو الأدم خاصة ، وهو ما ينصبغ به الخبز مثل الخل والزيت واللبن والسمن ، وما أشبه ذلك ، استدلالا بما روي عن عائشة - رضي الله عنها أنها قالت : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبرمة تفور بلحم وأدم ، فقدمنا له خبزا بأدم البيت ، فقال : ألم أر برمة فيها لحم ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، ولكن ذاك لحم تصدق به على بريرة ، وأنت لا تأكل الصدقة ، فقال : هو لها صدقة ، ولنا هدية فميزت بين اللحم والأدم في الاسم ، فدل على تمييزها فيه .

ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سيد الأدم اللحم ، ونعم الإدام الخل فجمع بينهما في اسم الأدم ، فدل على اشتراكهما فيه ؛ ولأن اسم الأدم مشتق من استطابة أكل الخبز به حتى يستحب ويستمرأ ، مأخوذ من قول العرب : أدم الله بينكما أي أصلح بينكما بالمحبة . وروى أبو عبيد في " غريب الحديث " أن المغيرة بن شعبة خطب امرأة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو نظرت إليها ، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما .

فحكى أبو عبيد عن الكسائي معناه : أن تكون بينكما المودة والاتفاق ، وهذا المعنى في اللحم أوفى منه في الصبغ ، فدل على أنه باسم الإدام أخص .

وتمييز عائشة - رضي الله عنها - إنما كان لاختلاف النوع ، ولم يكن لاختلاف الاسم ، فإذا ثبت هذا القسم فما يستطاب به أكل الخبز أربعة أقسام :

[ ص: 442 ] أحدها : ما يكون إداما يحنث بأكله منفردا ، وبالخبز ، وهو ما يؤتدم به في الأغلب من اللحم والسمك والبيض واللبن ، وما في معناه .

والقسم الثاني : ما لا يكون أدما ، ولا يحنث بأكله منفردا ، ولا بالخبز ، وهو الفواكه كلها ؛ لأن اسم الأدم لا ينطلق عليها من عرف عام ولا خاص ، والمستئدم بها خارج عن العرب .

والقسم الثالث : ما لا يكون إداما إذا انفرد عن الخبز ، ويصير إداما إذا أكل بالخبز ، وهو يستأدم به في خصوص العرف دون عمومه كالعسل والدبس والتمر ، فلا يحنث به إن أكله منفردا ، ويحنث به إن أكله بالخبز ؛ لأنه قد صار بالخبز إداما ، ولم يكن بانفراده إداما .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه أعطى سائلا خبزا وتمرا ، وقال : هذا إدام هذا .

والقسم الرابع : ما اختلف فيه لاختلاف أحواله ، فيؤكل تارة قوتا ، وتارة أدما كالأرز والباقلاء فله في أكله ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يأكله مخبوزا ، فقد صار بهذه الصفة قوتا ، فلا يحنث بأكله .

والحال الثانية : أن يأكله مطبوخا بخبز أو يصنع به ، فقد صار بهذه الصفة إداما يحنث بأكله .

والحال الثالثة : أن يأكله مطبوخا منفردا بغير خبز ، ففي حنثه بأكله ثلاثة أوجه :

أحدها : يحنث به اعتبارا بصفته في الائتدام .

والوجه الثاني : لا يحنث به اعتبارا بأصله في الأقوات .

والوجه الثالث : أن يعتبر عرف بلده ، فإن كان في عرفهم إداما كأهل العراق حنث بأكله ، وإن كان في عرفهم قوتا كطبرستان لم يحنث بأكله . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية