الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 463 ] كتاب النذور

مسألة : قال الشافعي رحمه الله : " من نذر أن يمشي إلى بيت الله لزمه إن قدر على المشي ، وإن لم يقدر ركب وأهراق دما احتياطا من قبل أنه إذا لم يطق شيئا سقط عنه ، ولا يمشي أحد إلى بيت الله ، إلا أن يكون حاجا أو معتمرا " .

قال الماوردي : أما النذر في اللغة ، فهو الوعد بخير أو بشر ، قال عنترة العبسي :


الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لم ألقهما دمي



وأما النذر في الشرع ، فهو الوعد بالخير ، دون الشر ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا نذر في معصية والأصل في وجوب الوفاء بالنذور كتاب الله وسنة رسوله . قال الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ المائدة : 1 ] ، وقال تعالى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ الإسراء : 24 ] ، يعني مسئولا عنه ، وفي الفرق بين العقد والعهد وجهان :

أحدهما : أن العقد ما كان بين متعاقدين ، والعهد قد ينفرد فيه الإنسان في حقه نفسه .

والوجه الثاني : أن العقد إلزام بوثيقة ، والعهد إلزام بغير وثيقة ، فصار العقد أوكد من العهد ، فأمر في هاتين الآيتين بالوفاء .

وقال تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا [ النحل : 16 ] ، فجمع في هذه الآية بين الأمر بالوفاء وبين النهي عن نقضه ، ثم حمد من وفى بنذره فقال : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ الإنسان : 7 ] ، وحمد من وفى بعهده فقال : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا [ البقرة : 177 ] ثم ذم وتوعد من لم يف بعهده ، ولم يف بنذره فقال تعالى : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله الآيات إلى قوله تعالى : وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 ، 76 ، 77 ] وهذا نزل في ثعلبة بن حاطب الأنصاري وفي سبب نزوله فيه قولان :

[ ص: 464 ] أحدهما : أنه كان له مال بالشام خاف هلاكه ، فنذر إن وصل إليه أن يتصدق منه ، فلما قدم عليه بخل به وهذا قول الكلبي .

والثاني : أن مولى لعمر قتل حميما له فنذر إن وصل إلى الدية أن يخرج حق الله تعالى منها ، فلما وصلت إليه بخل بحق الله تعالى منها وهذا قول مقاتل ، فلما بلغ ثعلبة ما نزل فيه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأله أن يقبل صدقته فقال : إن الله تعالى منعني أن أقبل منك صدقتك ، فحثا القراب على رأسه ، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقبل من صدقته شيئا ، ثم أتى بعده أبا بكر فلم يقبلها منه ، ثم أتى بعده عمر فلم يقبلها منه ، ثم أتى بعده عثمان فلم يقبلها منه ، ومات في أيامه ، وهذا من أشد وعيد ، وأعظم زجر في نقض العهود ، ومنع النذور .

ويدل عليه من السنة ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه وروى الشافعي ، عن سفيان ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قال الله تعالى : إن النذر لا يأتي على ابن آدم شيئا لم أقدره عليه ، ولكنه شيء أستخرج به من البخيل ، يؤتيني عليه ما لا يؤتيني على البخل .

فدل هذا الحديث على أن ما يبذله من البر أفضل مما يلتزمه بالنذر .

وروى نافع عن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن عمر قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوف بنذرك ؛ ولأن ضمان الحقوق نوعان : حق لله تعالى ، وحق للآدميين ، فلما جاز أن تتبرع بالضمان في حقوق الآدميين ، جاز أن تتبرع لضمان في حقوق الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية