الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 476 ] بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وآله

قال الشافعي : " ولو قال : علي أن أمشي لم يكن عليه المشي حتى يكون برا ، فإن لم ينو شيئا فلا شيء عليه ؛ لأنه ليس في المشي إلى غير مواضع التبرر بر ، وذلك مثل المسجد الحرام ، وأحب لو نذر إلى مسجد المدينة أو إلى بيت المقدس أن يمشي وأحتج بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ولا يبين لي أن يجب كما يبين لي أن واجبا المشي إلى بيت الله ، وذلك أن البر بإتيان بيت الله عز وجل فرض ، والبر بإتيان هذين نافلة ، ولو نذر أن يمشي إلى مسجد مصر لم يجب عليه " .

قال الماوردي : لا يخلو إذا نذر المشي إلى مكان من أحد أمرين ، إما أن يعين المكان الذي يمشي إليه أو لا يعين ، فإن لم يعين مكانا يمشي إليه بقول ولا نية لم ينعقد به نذر ، ولم يلزم مشي ؛ لأنه لا قربة في المشي ، ولا بر ، ولا يلزم بالنذر إلا ما كان برا ؛ وإن عين في نذره المكان الذي يمشي إليه بقول ظاهر ، أو نية مضمرة ، فله فيه ثلاثة أحوال :

أحدها : أن ينذر المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى مكة ، أو إلى موضع من جميع الحرم ، فقد ذكرنا انعقاد نذره به لما خصه الله تعالى به من وجوب قصده في الشرع ؛ فوجب قصده بالنذر ، ووجب عليه في قصده أن يحرم بحج أو عمرة ؛ لأنه لا يجب قصده إلا بحج أو عمرة .

والحال الثانية : أن ينذر المشي إلى مسجد لم يختص بعبادة شرعية كنذر المشي إلى مسجد بالبصرة ، أو مسجد بالكوفة فلا ينعقد به النذر ، ولا يلزمه المشي إليه ؛ لأنه ليس لمسجد البصرة والكوفة اختصاص بطاعة لا توجد في غيره من المساجد .

فلو نذر أن يصلي في مسجد البصرة ؛ انعقد نذره بالصلاة ولم ينعقد بجامع البصرة ، وجاز أن يصلي صلاة نذره بالبصرة وغير البصرة .

والحال الثالثة : أن ينذر المشي إلى المسجد الأقصى ، وهو مسجد بيت [ ص: 477 ] المقدس ، أو ينذر المشي إلى مسجد المدينة ، وهو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي انعقاد نذره بالمشي إليهما قولان :

أحدهما : وهو المنقول هاهنا ، والمنصوص عليه في كتاب الأم ، وبه قال أبو حنيفة : أن نذره لا ينعقد به ولا يلزمه المشي إليه ، لرواية عطاء بن أبي رباح - رضي الله عنه - عن جابر بن عبد الله أن رجلا قال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : صل هاهنا ثم أعاد عليه ، فقال : صل هاهنا ، ثم أعاد عليه . قال : شأنك إذن فلو وجب هذا النذر ؛ لبدأه - صلى الله عليه وسلم - بالأمر به ؛ ولأنهما لا يجب قصدهما بالشرع ؛ فلم يجب قصدهما بالنذر كسائر المساجد من جميع الأمصار ، فعلى هذا إن لم يقرن بالمشي إليها عبادة سقط حكم النذر ، وإن قرن بالمشي إليها عبادة شرعية من صلاة ، أو صيام ، أو اعتكاف لزمه ما نذر من صلاة أو صيام أو اعتكاف ولم يلزمه نذره في المشي إلى المسجد الأقصى ، ومسجد المدينة ، وجاز أن يصلي ، ويصوم في مسجد ، وغير مسجد ، وجاز أن يعتكف في كل مسجد .

والقول الثاني : نص عليه رحمة الله عليه في كتاب البويطي وبه قال مالك : إن نذره بالمشي إليهما منعقد والوفاء به واجب ؛ لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا فنفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شد الرحال وجوبا إلا إليها ؛ فدل على وجوب شدها إلى هذه المساجد الثلاثة ، ولأنهما قد كانا مقصودين في الشرع بعبادة واجبة .

وأما المسجد الأقصى ؛ فقد كان في صدر الإسلام قبلة يصلى إليه .

وأما مسجد المدينة فقد كان مقصودا بوجوب الهجرة إليه ؛ ففارقا ما عداهما من سائر مساجد الأمصار في حكم الشرع ؛ ففارقاها أيضا في حكم النذر .

فعلى هذا لا يخلو نذره في المشي إليها من أن يتضمن عبادة فيه ، أو لا يتضمن عبادة فيه ، فإن لم يتضمن فيه عبادة واقتصر على أن نذر المشي إلى المسجد الأقصى ، ومسجد المدينة ؛ لزمه المشي إليهما ، وفي التزامه فعل العبادة فيهما وجهان :

أحدهما : لا يلزمه غير قصدهما ؛ لأنه لم يلتزم بنذره ، ويكون النذر مقصورا على التبرر بقصدهما والمشاهدة لهما .

والوجه الثاني : يلزمه في القصد إليهما فعل عبادة فيهما ؛ لأن المساجد إنما تقصد للعبادة دون المشاهدة .

فعلى هذا فيما يلزمه من العبادة فيهما وجهان :

[ ص: 478 ] أحدهما : أنه مخير فيما شاء من صلاة أو صيام أو اعتكاف ؛ لأن جميعها عبادات يتقرب بها إلى الله تعالى .

والوجه الثاني : يلزمه فيهما الصلاة خاصة لاختصاص المساجد بالصلاة عرفا فاختص بهما نذرا ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره ، وإن عين في نذره ما يفعله من العبادات في هذين المسجدين فقال : لله علي أن أصلي في المسجد الأقصى ، ومسجد المدينة ، أو قال : لله علي أن أعتكف فيهما ، أو أصوم فيهما انعقد نذره بالقصد ، وانعقد نذره بالعبادة ولزمته العبادة التي عينها من صلاة أو صيام أو اعتكاف ولم يجز أن يعدل عنها إلى غيرها .

فإذا نذر أن يمشي إلى المسجد الأقصى وأن يصلي فيه ركعتين انعقد نذره بالأمرين جميعا .

أما المشي إليه ففي وجوبه وجهان كالمشي إلى الحرم :

أحدهما : لا يجب ويكون محمولا على القصد فإن مشى أو ركب جاز ، وإن كان المشي الذي صرح به أفضل .

والوجه الثاني : أن المشي إليه واجبا ولا يجوز له أن يركب اعتبارا بصريح لفظه في نذره ، فعلى هذا إن ركب إليه ، ولم يمش ففي إجزائه وجهان :

أحدهما : لا يجزئه إذا قيل : إن نذره مقصور على الوصول إليه ؛ لأنه يصير بالمشي هو العبادة المقصودة ، وعليه إعادة قصده إليه ماشيا .

والوجه الثاني : يجزئه إذا قيل : إنه يلتزم بقصده فعل عبادة فيه ؛ لأنه يصير المقصود بالنذر هو فعل العبادة فيه ، ولا يلزمه أن يجبر ترك المشي بفدية ، كما قيل : في المشي إلى الحرم لاختصاص الفدية بجبران الحج ، دون غيره من العبادات .

فأما الصلاة فيه ، فقد لزمته بالنذر في استحقاق فعلها فيه وجهان :

أحدهما : أنها مستحقة فيه ، فإن صلاها في غيره من المساجد ؛ لم يجزه إذا قيل : إنه يلتزم بقصده فعل عبادة فيه .

والوجه الثاني : أنه غير مستحق فيه ، فإن صلاها في غيره أجزأه لأنه لا يلتزم بقصده فعل غيره ، والأظهر من الوجهين لزوم صلاته فيه ، وإنها لا تجزئه في غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية