الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب أدب القاضي

[ القول في حكم القضاء ] .

الأصل في وجوب القضاء وتنفيذ الحكم بين الخصوم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمم عليه .

الدليل من الكتاب :

قال الله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص : 26 ] . الآية .

أما قوله تعالى : إنا جعلناك خليفة في الأرض ففيه وجهان :

أحدهما : خليفة لنا ، وتكون الخلافة هي النبوة .

والثاني : خليفة لمن تقدمك فيها ، وتكون الخلافة هي الملك .

وقوله : فاحكم بين الناس بالحق وفيما أخذ منه الحكم وجهان :

أحدهما : أنه مأخوذ من الحكمة التي توجب وضع الشيء في موضعه .

والثاني : أنه مأخوذ من إحكام الشيء ومنه حكمة اللجام لما فيه من الإلزام .

وفي قوله : بالحق وجهان :

أحدهما : بالعدل .

والثاني : الحق الذي ألزمك الله .

وفي قوله : ولا تتبع الهوى ، وجهـان :

أحدهما : الميل مع من يهواه .

والثاني : أن تحكم بما تهواه .

وفي قوله : فيضلك عن سبيل الله وجهان :

أحدهما : عن دين الله .

والثاني : عن طاعة الله .

وفي قوله : بما نسوا يوم الحساب وجهان :

[ ص: 4 ] أحدهما : بما تركوا من العمل ليوم الحساب .

والثاني : بما أعرضوا عن يوم الحساب .

وقال تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم [ الأنبياء : 78 ] . قال قتادة : النفش : رعي الليل ، والهمل : رعي النهار .

وكنا لحكمهم شاهدين وكان الحكم في غنم رعت كرم آخر ، وقيل زرعه ، فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم أو الزرع ، وحكم سليمان بأن تدفع الغنم إلى صاحب الكرم لينتفع بدرها ونسلها ويدفع الكرم إلى صاحب الغنم ليعمره حتى يعود إلى حالته ثم يرد الكرم ويسترجع الغنم . -

فقال تعالى : ففهمناها سليمان فكان حكم الله تعالى فيما قضاه سليمان ، فرجع داود عن حكمه إلى حكم سليمان - عليهما السلام - .

فإن قيل فكيف نقض داود حكمه باجتهاد سليمان ؟ فعنه جوابان :

أحدهما : أن داود كان قد أفتى بهذا الحكم ولم ينفذه فلذلك رجع عنه .

الثاني : أنه يجوز أن يكون حكم سليمان عن وحي فيكون نصا يبطل به الاجتهاد .

ثم قال تعالى وكلا آتينا حكما وعلما فيه وجهان :

أحدهما : أنه آتى كل واحد منهما من الحكم والعلم مثل ما آتاه للآخر .

والثاني : أنه آتى كل واحد منهما من الحكم والعلم غير ما آتاه للآخر .

وفي المراد بالحكم والعلم وجهان :

أحدهما : أن الحكم الاجتهاد والعلم النص .

والثاني : أن الحكم : القضاء والعلم : الفتيا .

قال الحسن البصري : لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا لكن الله تعالى عذر هذا باجتهاده وأثنى على هذا بصوابه .

وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ النساء : 65 ] .

قال عبد الله وعروة ابنا الزبير بن العوام : نزلت هذه الآية في الزبير ورجل من الأنصار قد شهد بدرا ، وقيل إنه حاطب بن أبي بلتعة ، تخاصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شراج الحرة كانا يسقيان به نخلا لهما فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال إن كان ابن عمتك ؟ ! فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى [ ص: 5 ] عرف أنه قد ساءه ثم قال : " يا زبير احبس الماء إلى الجدر أو إلى الكعبين ثم خل سبيل الماء " فنزل قوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون أي لا يعلمون بما يوجبه الإيمان حتى يحكموك أي يرجعوا إلى حكمك فيما شجر بينهم ، أي فيما تنازعوا فيه .

وسميت المنازعة مشاجرة لتداخل كلامهما كتداخل الشجر الملتف .

ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت فيه وجهان

أحدهما : شكا ، قاله مجاهد .

والثاني : إنما قاله الضحاك : ويسلموا تسليما يحتمل وجهين :

أحدهما : يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك .

والثاني : يستسلموا إليك تسليما لأمرك .

وقال تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [ النساء : 58 ] .

وقال تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم [ المائدة : 49 ] .

وأما السنة :

فروى بشر بن سعيد عن أبي قيس عن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " وإذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر " ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة .

فجعل له في الإصابة أجرين هما على الاجتهاد والآخر على الإصابة ، وجعل له في الخطأ أجرا واحدا على الاجتهاد دون الخطأ .

وروى أبو هاشم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " القضاة ثلاثة : اثنان في النار وواحد في الجنة : قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة وقاض قضى بجهل فهو في النار وقاض عرف الحق فجار فهو في النار " .

وروى عمرو بن الأسود عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إن الله مع القاسم حين يقسم ومع القاضي حين يقضي

[ ص: 6 ] وروى ابن عون الثقفي عن الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : " كيف تقضي إن عرض لك قضاء ؟ " .

قال : أقضي بكتاب الله ، قال " فإن لم يكن في كتاب الله " قال بسنة رسول الله . قال فإن لم يكن في سنة رسول الله " قال أجتهد رأيي ولا آلو ، قال : فضرب صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله
.

وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا جلس القاضي للحكم بعث الله إليه ملكين يسددانه فإن عدل أقاما وإن جار عرجا وتركاه "

وقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المتنازعين وحكم بين المتشاجرين .

وقلد القضاء ؛ فولى عليا قضاء ناحية اليمن وقال له : " إذا حضر الخصمان إليك فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر " قال علي فما أشكلت علي قضية بعدها وقدم منها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع .

واستخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد على مكة بعد الفتح واليا وقاضيا وقال " يا عتاب انههم عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح ما لم يضمنوا " .

وقلد معاذا قضاء بعض اليمن وقال له ما قدمنا .

وقلد دحية الكلبي قضاء ناحية اليمن وكان يشبهه بجبريل - عليه السلام - .

وكان إذا أسلم قوم أقام عليهم من يعلمهم شرائع الدين ويقضي بين المتنازعين .

وقد حكم الخلفاء الراشدون بين الناس وقلدوا القضاة والحكام .

فحكم أبو بكر - رضي الله عنه - بين الناس واستخلف القضاة ، وبعث أنسا إلى البحرين قاضيا .

وحكم عمر بين الناس ، وبعث أبا موسى الأشعري إلى البصرة قاضيا ، وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا .

وحكم عثمان بين الناس ، وقلد شريحا القضاء .

وحكم علي بين الناس وبعث عبد الله بن عباس إلى البصرة قاضيا وناظرا .

فصار ذلك من فعلهم إجماعا

[ ص: 7 ] دليل العقل والعرف :

ولأن القضاء أمر بالمعروف ونهي عن المنكر والله تعالى يقول : الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر [ التوبة : 112 ] . الآية .

ولأن الناس لما في طباعهم من التنافس والتغالب ولما فطروا عليه من التنازع والتجاذب يقل فيهم التناصر ويكثر فيهم التشاجر والتخاصم ، إما لشبهة تدخل على من تدين أو لعناد يقدم عليه من يجور . فدعت الضرورة إلى قودهم إلى الحق والتناصف بالأحكام القاطعة لتنازعهم والقضايا الباعثة على تناصفهم .

ولأن عادات الأمم به جارية وجميع الشرائع به واردة .

ولأن في أحكام الاجتهاد ما يكثر فيه الاختلاف فلم يتعين أحدهما بين المختلفين فيه إلا بالحكم الفاصل والقضاء القاطع .

التالي السابق


الخدمات العلمية