الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ المولى ] .

وأما الشرط الثاني وهو المولى :

فتقليد القضاء من جهته من فروض الكفايات ، لأنه لا يتعين في واحد من الناس ، ويدخل في فرضه كل من تكاملت فيه شروط القضاء حتى يقوم به أحدهم فيسقط فرضه عن جماعتهم .

فإن لم تكمل شروطه في الوقت إلا في واحد تعين عليه فرض الإجابة إذا دعي إلى القضاء ، ولم يتعين عليه طلب القضاء لأن فرض التقليد على المولي دون المولى ولا يصير لتفرده في عصره واليا حتى يولى .

ولو تكاملت شروط الإمامة في واحد انفرد بها عن غيره فقد اختلف العلماء : هل تنعقد إمامته من غير أن يعقدها له أهل العقد والحل ؟

فذهب أكثر الفقهاء إلى أنها لا تنعقد إمامته من غير أن يعقدها له أهل العقد والحل إلا بعقد كولاية القضاء .

وذهب آخرون من فقهاء العراق وبعض المتكلمين إلى انعقاد إمامته من غير عقد . لأن عقد أهل العقد إنما يراد لتمييز المستحق . فإذا تميز بصفته استغنى عن عقدهم .

وفرقوا بين القضاء والإمامة . بأن القضاء نيابة خاصة يجوز صرفه عنها مع بقائه على صفته فلم يفتقر إلى عقد ومول وإن شذ بعض أهل المذهب فسوى بين الإمامة والقضاء . وجعل ولاية القضاء فيمن تفرد بشروطه منعقدة من غير عاقد كالإمامة . والجمع بينهما في الصحة أفسد ، والجمع بينهما في البطلان أصح ، لأن الولايات عقود فافتقرت إلى عاقد .

فإن امتنع هذا المنفرد بشروط القضاء من الإجابة إليه أجبره الإمام عليه لتعين [ ص: 10 ] فرضه عليه ومن تعين عليه فرض أخذ به جبرا .

ولاية المفولاضول مع وجود الأفضل :

وإذا تكاملت شروط القضاء في جماعة كان الأولى بالإمام أن يقلد أفضلهم .

فإن عدل عن الأفضل إلى المقصر انعقدت ولايته لأن الزيادة على كمال الشروط غير معتبرة .

ولو تكاملت شروط الإمامة في جماعة وجب على أهل الاختيار من أهل العقد أن يقلدوا أفضلهم .

وإن عدلوا عن الأفضل إلى المفضول لعذر صح العقد .

وإن عدلوا عنه لغير عذر فقد اختلف الفقهاء في صحة إمامته فذهب جمهورهم إلى صحتها كالقضاء ، وذهب بعضهم إلى فسادها لفساد الاختيار في العدول عن الأفضل إلى المفضول .

وفرقوا بين الإمامة والقضاء بأن القضاء نيابة خاصة فجاز أن يعمل فيها على اختيار المستنيب كالوكالة ، والإمامة ولاية عامة ولم يصح فيها تفريط أهل الاختيار لافتياتهم على غيرهم .

تقليد طالب القضاء :

وإذا تكافأت الجماعة في شروط القضاء وكان فيهم طالب للولاية وفيهم ممسك عنها فالأولى بالإمام أن يقلد الممسك دون الطالب . لأنه أرغب في السلامة .

فإن امتنع لعذر لم يجبر عليه .

وإن امتنع لغير عذر ففي جواز إجباره عليه وجهان :

أحدهما : لا يجبر عليه : لأنها نيابة لا يدخلها الإجبار كالوكالة .

والوجه الثاني : يجبر عليه : لأنه مأمور بطاعة إن ترك فيها على امتناعه جاز أن يكون حال غيره مثل حاله فيفضي الأمر إلى تعطيل القضاء .

وخالف حال الوكالة التي لا تتعلق بطاعة .

فإن عدل الإمام عن الممسك إلى الطالب جاز وصح تقليده بعد أن اعتبر حال الطالب في طلبه .

وله فيه خمسة أحوال ، مستحب ومحظور ومباح ومكروه ومختلف فيه .

فأما الحال الأولى : وهو الطلب المستحب فهو أن تكون الحقوق مضاعة بجور أو عجز والأحكام فاسدة بجهل أو هوى ؛ فيقصد بطلبه حفظ الحقوق وحراسة الأحكام فهذا [ ص: 11 ] الطلب مستحب وهو به مأجور ، لأنه يقصد أمرا بمعروف ونهيا عن منكر .

والحال الثانية : وهو الطلب المحظور : أن يقصد بطلبه انتقاما من أعداء أو تكسبا بارتشاء ، فهذا الطلب محظور يأثم به لأنه قصد به ما يأثم بفعله .

وأما الحال الثالثة : وهو الطلب المباح فهو أن يطلبه لاستمداد رزقه أو استدفاع ضرر ، فهذا الطلب مباح لأن المقصود به مباح .

وأما الحال الرابعة : وهو الطلب المكروه ، فهو أن يطلبه للمباهاة والاستعلاء به فهذا الطلب مكروه لأن المقصود به مكروه .

قال الله تعالى : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين [ القصص : 83 ] .

وأما الحال الخامسة : وهو الطلب المختلف فيه فهو أن يطلبه رغبة في الولاية والنظر فقد اختلف الفقهاء فيه مع اختلاف السلف قبلهم ، واختلاف أصحابنا معهم على ثلاثة مذاهب :

أحدها : يكره أن يكون له طالبا ويكره أن يجيب إليه مطلوبا ، وهو الظاهر من قول ابن عمر ومكحول وأبي قلابة ومن تخشن من الفقهاء وطلب السلامة لرواية سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين " ولأنها أمانة يتحملها ربما قصر فيها أو عجز عنها والله تعالى يقول : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال [ الآية الأحزاب : 73 ] .

والمذهب الثاني : يستحب أن يكون له طالبا ، وأن يجيب إليه مطلوبا وهو الظاهر من قول عمر والحسن ومسروق ومن تساهل من الفقهاء ومال إلى التعاون على البر والتقوى لرواية أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من طلب القضاء حتى يناله فإن غلب عدله جوره فله الجنة ، وإن غلب جوره عدله فله النار " . ولأنه فرض لا يؤدى إلا بالتعاون والله تعالى يقول : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] .

والمذهب الثالث : وهو أعدلها : يكره أن يكون طالبا ويستحب أن يجيب إليه مطلوبا وهو قول أكثر المتوسطين في الأمر من الفقهاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن [ ص: 12 ] سمرة " لا تطلب الإمارة فإن أوتيتها عن غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها " ولأن الطلب تكلف والإجابة معونة .

بذل المال على طلب القضاء :

فإن بذل على طلب القضاء مالا : انقسم حال طلبه ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون واجبا لتعين فرضه عليه عند انفراده بشروط القضاء أو مستحبا له ليزيل جور غيره أو تقصيره فبذله على هذا الطلب مستحب له وقبوله منه محظور على القابل له .

والقسم الثاني : أن يكون طلبه محظورا أو مكروها فبذله على هذا الطلب محظور ومكروه ، بحسب حال الطلب لامتزاجهما ، وقبوله منه أشد حظرا وتحريما .

والقسم الثالث : أن يكون طلبه مباحا فيعتبر الحكم ، فإن كان بعد التقليد لم يحرم على الباذل وحرم على القابل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " هدايا الأمراء غلول " وإن كان البذل قبل التقليد حرم على الباذل والقابل جميعا لأنها من الرشا المحظورة على باذلها وقابلها لرواية ثابت عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي والرائش .

فالراشي باذل الرشوة والمرتشي قابلها والرائش المتوسط بينهما .

فإن كان هذا الطالب قد عدم شروط القضاء أو بعضها حرم عليه الطلب وحرم على الإمام الإجابة لفساد التقليد وتحريم النظر وصار بالطلب مجروحا .

التالي السابق


الخدمات العلمية