الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ القسم الثاني وهو المفسر والمجمل ] .

وأما القسم الثاني : وهو المفسر والمجمل فالمفسر هو الذي يفهم منه المراد به .

والمجمل هو ما لم يفهم منه المراد به .

ومثله في الكتاب قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 النساء : 4 ، 7 النور : 56 المزمل : 20 ] .

ومثله في السنة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " .

فإن قيل كيف جاز خطابهم بما لا يفهمونه من المجمل ؟ قيل : لأمرين :

أحدهما : ليكون إجماله توطئة للنفوس على قبول ما يتعقبه من البيان فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة والزكاة ببيانهما جاز أن تنفر النفوس منهما ولا تنفر من إجمالهما . والثاني : أن الله تعالى جعل من الأحكام جليا ، وجعل منها خفيا : ليتفاضل الناس [ ص: 61 ] في العلم بها ، ويثابوا على الاستنباط لها . كذلك جعل منها مفسرا جليا ، وجعل منها مجملا خفيا .

وإذا كان كذلك فالمجمل ضربان :

أحدهما : أن يقع الإجمال في الاسم المشترك .

والضرب الثاني : أن يقع الإجمال في الحكم المبهم .

فأما الإجمال في الاسم المشترك فمثل القرء ينطلق على كل واحد من الحيض والطهر ، والشفق ينطلق على كل واحد من الحمرة والبياض ، والذي بيده عقدة النكاح ينطلق على كل واحد من الأب والزوج .

فإن اقترن بأحدهما بينة أخذ به ، وإن تجرد عن بينة واقترن به عرف عمل عليه .

وإن تجرد عن بينة وعرف وجب الاجتهاد في المراد منهما وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط فصار داخلا في المجمل لخفائه وخارجا منه لإمكان استنباطه .

وأما الإجمال في الحكم المبهم : فضربان :

أحدهما : ما كان إجماله في لفظه كقوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 - النساء : 77 - النور : 56 - المزمل : 02 ] . وآتوا حقه يوم حصاده [ الأنعام : 141 ] .

والثاني : ما كان إجماله بغيره .

مثاله من القرآن قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] . والربا صنف من البيوع صار به الباقي من البيوع مجملا على قول كثير من أصحابنا ، وإن قال بعضهم هو عموم خص منه الربا .

ومثاله من السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الصلح جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " وكلا الضربين مجمل يفتقر إلى بيان يفهم به المراد .

فإن قيل : أفيلزم التعبد به قبل بيانه ؟ قيل : نعم ، قد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن وقال له : ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإن أجابوك فأعلمهم أن في أموالهم حقا يؤخذ من أغنيائهم ويرد على فقرائهم ، فتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها .

وفي كيفية تعبدهم بالتزامه وجهان :

أحدهما : أنهم يتعبدون قبل البيان بالتزامه مجملا وبعد البيان بالتزامه مفسرا .

وإذا كان كذلك فالبيان يختلف باختلاف المجمل وهو ضربان :

[ ص: 62 ] أحدهما : ما وكل العلماء إلى اجتهادهم في بيانه من غير سمع يفتقر إليه : مثل قوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] . فلم يرد سمع ببيان أقل الجزية حتى اجتهد العلماء في أقلها . وكقوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] . فأجمل ذكر العدد الذي تنعقد به الجمعة حتى اجتهد العلماء فيه . وكقوله تعالى في نفقة الزوجات لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [ الطلاق : 7 ] . فأجمل قدر النفقة في أقلها وأوسطها وأكثرها حتى اجتهد العلماء في تقديرها فهذا ونظائره من المجمل الذي لا يفتقر إلى بيان السمع ، فبيانه ساقط عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه مأخوذ من أصول الأدلة المشهورة ، سأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكلالة فقال : " تكفيك آية الصيف " فوكله إلى الاجتهاد ولم يصرح بالبيان .

واختلف أصحابنا في هذا النوع من البيان الصادر عن الاجتهاد هل يؤخذ قياسا أو تنبيها ؟ على وجهين :

أحدهما : يؤخذ تنبيها من لفظ المجمل وشواهد أحواله ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر في الكلالة : " تكفيك آية الصيف " فرده إليها ليستدل بما تضمنها من تنبيه وشواهد حال .

والوجه الثاني : يجوز أن يؤخذ قياسا على ما استقر بيانه من نص أو إجماع لأن عمر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قبلة الصائم فقال : أرأيت لو تمضمضت بماء فجعل القبلة بغير إنزال كالمضمضة بلا ازدراد .

والضرب الثاني من المجمل : ما يفتقر بيانه إلى السمع ، كقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 43 ] . لا يوصل إلى بيانه إلا من نص مسموع من كتاب أو سنة . فعلى هذا هل يجوز أن يتأخر بيانه وبيان تخصيص العموم عن وقت نزوله إلى وقت تنفيذه واستعماله أم لا ؟ على ثلاثة أوجه :

أحدها : يجوز أن يؤخر بيان العموم والمجمل عن وقت النزول إلى وقت التنفيذ والاستعمال ، لأن معاذا أخر بيان الزكاة لأهل اليمن إلى الوقت الذي أخذها منهم .

والوجه الثاني : لا يجوز تأخير بيان المجمل والعموم عن وقت النزول إلى وقت التنفيذ لاختلاف أحوال الناس في الحاجة إلى البيان وليحترز بتعجيله من اخترام المنية للرسول المبين

والوجه الثالث : يجوز تأخير بيان العموم : لأنه قبل البيان مفهوم ، ولا يجوز تأخير بيان المجمل : لأنه قبل البيان غير مفهوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية