الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 63 ] فصل : [ القسم الثالث : بيان المطلق والمقيد ] .

وأما القسم الثالث وهو المطلق والمقيد : فهو أن يرد الخطاب مقيدا بحال أو وصف أو شرط ثم يرد من جنسه مطلق غير مقيد بوصف ولا شرط .

والكلام فيه مشتمل على فصلين :

أحدهما : في المقيد هل يجب أن يكون حكمه مقصورا على الشرط المقيد به أم لا ؟

والثاني : في المطلق هل يجب حمله على حكم المقيد من جنسه أم لا ؟

فأما الفصل الأول في المقيد بالشرط : فهو عندنا وعند جمهور الفقهاء ينقسم قسمين :

أحدهما : ما كان تقييده بالوصف شرطا في ثبوت حكمه ، فيثبت الحكم بوجوده وينتفي بعدمه مثل قوله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ المائدة : 6 ] . فكان تقييد التيمم بالمرض والسفر شرطا في إباحته وكقوله في كفارة الأيمان : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام [ المائدة : 89 ] . فكان العدم شرطا في جواز الصيام إلى نظائره وهذا القسم فيما كان معناه خاصا .

والقسم الثاني : ما لا يكون الوصف المقيد شرطا في حكم الأصل ويعم حكمه

مع وجود الشرط وعدمه مثل قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم [ النساء : 101 ] . وليس الخوف شرطا في جواز القصر لجوازه مع الأمن وكقوله في جزاء الصيد : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] . وليس العمد شرطا في وجوبه لوجوبه على الخاطئ والعامد وكقوله في تحريم المناكح : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم [ النساء : 23 ] . وليس كونها في الحجر شرطا في الحظر لتحريمها في الحالين .

وهذا القسم فيما كان معناه عاما .

والفرق بينهما يكون باعتبار معنى المقيد .

فإن كان خاصا كالقسم الأول ثبت حكم التقييد .

وإن كان معناه عاما كالقسم الثاني سقط حكم التقييد .

وأنكر أهل الظاهر ومنهم داود بن علي هذا القسم وأجروا جميع المقيد على تقييده وجعلوه شرطا في ثبوت حكمه يثبت بوجوده ويسقط بعدمه .

[ ص: 64 ] ولم يعتبروا معنى الأصل في عموم ولا خصوص ، لاعتمادهم على المنصوص دون المعاني .

ولأن النص لا يرفع بالتعليل ، لأنه يصير نسخا بها : ولأنه لو سقط حكم هذا التقييد المشروط لجاز أن يسقط حكم أصله .

ولو استقر أصل هذا لسقطت أحكام النصوص كلها . وهذا الذي قاله مدفوع بنص الكتاب : قال الله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ الإسراء : 31 ] . وليس يستباح قتلهم مع أمن الإملاق كما لا يستباح مع وجوده .

وقال ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا [ النور : 33 ] . ولا يجوز إكراههن عليه وإن لم يردن تحصنا .

وقال تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ التوبة : 36 ] . وهو لا يجوز أن يظلم فيهن ولا في غيرهن .

فلما سقط حكم التقييد في هذا ولم يصر نسخا جاز أن يسقط في غيره ولا يكون نسخا ، فإن خص هذا بدليل فقد جعلوا للدليل تأثيرا في إسقاط التقييد وهو الذي ذكرناه .

فإن قيل فإذا سقط حكم التقييد صار لغوا غير مقيد .

قيل : يحتمل ذكر التقييد مع سقوط حكمه أمورا منها :

أن يكون حكم المسكوت عنه مأخوذا من حكم المنطوق به ليستعمله المجتهد فيما لم يجد فيه نصا فإن أكثر الحوادث غير نصوص .

ومنها : أن يكون التقييد تنبيها على غيره كما قال تعالى : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك [ آل عمران : 75 ] . فنبه بالقنطار على الكثير ونبه بالدينار على القليل ، وإن كان حكم القليل والكثير فيهما سواء .

ومنها أن يكون الوصف هو الأغلب من أحوال ما قيد به ، فيذكره لغلبته كما قال تعالى : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] . وإن كانت مفاداة الزوجين تجوز مع وجود الخوف وعدمه لأن الأغلب من المفاداة أن تكون مع الخوف .

[ ص: 65 ] وإذا احتمل هذه الأمور وغيرها صار وجود التقييد مقيدا مع سقوط حكمه ، وإن لم يكن لغوا .

وإذا كان كذلك وجب النظر في كل مقيد .

فإن ظهر دليل على عدم تأثيره سقط حكم التقييد وجاز في عموم حكمه كالمطلق .

وإن عدم الدليل وجب حمله على تقييده وجعل شرطا في ثبوت حكمه فهذا حكم المقيد .

[ والفصل الثاني ] .

وأما حكم المطلق الوارد من جنس المقيد إذا جعل التقييد شرطا في المقيد فقد اختلف الفقهاء في وجوب حمله على إطلاقه أو على ما قيد من جنسه .

فالظاهر من مذهب الشافعي أنه يجب حمل المطلق على المقيد من جنسه ما لم يقم دليل على حمله على إطلاقه كما حمل إطلاق الشهادة في الديون والعقود بقوله سبحانه وتعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ البقرة : 282 ] . على الشهادة المقيدة بالعدالة في الرجعة بقوله تعالى وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] . فصارت العدالة شرطا في كل شهادة . ولاعتقاد الشافعي لهذا المذهب ما حمل إطلاق العتق في كفارة الأيمان والظهار على العتق المقيد بالإيمان في كفارة القتل ، وجعل الإيمان شرطا في عتق جميع الكفارات .

والظاهر من مذهب أبي حنيفة أن المطلق محمول على إطلاقه ما لم يقم دليل على حمله على المقيد من جنسه ولذلك لم يجعل العتق فيما عدا كفارة القتل مشروطا بالإيمان حملا على إطلاقه .

وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أن أقل حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل .

فإن قام الدليل على إطلاقه أطلق .

وإن قام الدليل على تقييده قيد .

وإن لم يقم على واحد منهما دليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل فيه إلى غيره من أدلة الشرع والاجتهاد في استنباط المعاني .

ويصير احتماله للأمرين مبطلا لحكم النص فيه .

وهذا قول من ذهب إلى وقف العموم حتى يقوم دليل على تخصيص أو عموم .

وهذا أفسد المذاهب ، لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد عائدا إليها ولا [ ص: 66 ] يعدل بالاحتمال إلى غيرها ليكون حكم النص ثابتا بما يؤدي الاجتهاد إليه من نفي الاحتمال عنه وتعيين المراد به .

والذي عندي وأراه أولى المذاهب في المطلق أن يعتبر غلظ حكم المطلق والمقيد .

فإن كان حكم المطلق أغلظ حمل على إطلاقه ولم يقيد إلا بدليل .

وإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولم يحمل على إطلاقه إلا بدليل ، لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لم يسقط التزامه بالاحتمال .

وإذا تقرر ما ذكرنا ووجب حمل المطلق على المقيد كان ذلك مستعملا في إطلاق الصفة ولا يكون مستعملا في إطلاق الأصل .

مثاله . أن مسح اليدين في التيمم مطلق وفي الوضوء تقيد بالمرفقين فحمل إطلاقهما في التيمم على تقييدهما في الوضوء بالمرفقين وأطلق ذكر الرأس والرجلين وذكرا في الوضوء فلم يحمل ترك ذكرهما في التيمم على إثبات ذكرهما في الوضوء ، لأن ذكر المرافق صفة ، وذكر الرأس والرجلين أصل .

وذهب أبو علي بن خيران من أصحاب الشافعي إلى أن المطلق محمول على المقيد في الصفة والأصل معا ، وجعل إطلاق ذكر الإطعام في كفارة القتل محمولا على ذكر الإطعام في كفارة الظهار ، وأوجب فيهما إطعام ستين مسكينا ، كما حمل إطلاق العتق في كفارة الظهار على تقييده بالأيمان في كفارة القتل .

وفي هذا إثبات أصل بغير أصل .

فإذا ثبت حمل المطلق على المقيد فقد اختلف أصحابنا هل وجب حمله عليه من طريق اللغة ، أو من طريق الشرع ؟ على وجهين :

أحدهما : وجب حمله عليه من طريق اللغة لأنه في لسان العرب موضوع لهذا .

والوجه الثاني : أنه وجب حمله على المقيد بالشرع المستقر على استنباط المعاني ، لأن الأحكام لا تؤخذ إلا شرعا من نمق أو قياس .

وإذا ورد مقيدان من جنس واحد بشرطين مختلفين وأطلق ثالث من جنسهما وجب حمل المطلق على إطلاقه ولم يجب حمله على أحد المقيدين لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر ، وحمل كل واحد من المقيدين على تقييده . وأما حمله على تقييد نظيره فينظر في صفتي التقييد فيهما .

فإن تنافى الجمع بينهما لم يحمل أحدهما على الآخر واختص كل واحد منهما بصفته التي قيد بها ، وذلك مثل تقييد صوم الظهار بالتتابع ، وتقييد صوم التمتع [ ص: 67 ] بالتفرقة ، ولا يمكن الجمع بين التتابع والتفرقة فيختص كل واحد منهما بصفته .

وإن أمكن اجتماع الصفتين ولم يتنافيا ففي حمل كل واحد منهما على تقييد نظيره وجهان :

أحدهما : لا يحمل إلا على ما قيد به إذا قيل إن المطلق لا يحمل على المقيد إلا بدليل .

والوجه الثاني : يحمل على تقييده وتقييد نظيره فيصير كل واحد منهما مقيدا بالصفتين إذا قيل بجواز حمل المطلق على المقيد .

فعلى هذا يجوز أن يحمل ما أطلق من جنسهما على تقييدهما معا ويصير كل واحد من النصوص الثلاثة المتجانسة مقيدا بشرطين .

التالي السابق


الخدمات العلمية