الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ القول في زمان النسخ ] .

وأما القسم الخامس في زمان النسخ : فهو على ثلاثة أضرب : يجوز النسخ في أحدها ولا يجوز في الآخر وعلى خلاف في الثالث .

فالضرب الأول : الذي يجوز النسخ فيه وهو بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به فيرد النسخ بعد العمل بالمنسوخ فهذا جائز سواء عمل به جميع الناس كاستقبال بيت المقدس أو عمل به بعضهم كفرض الصدقة في مناجاة الرسول نسخت بعد أن عمل بها علي بن أبي طالب وحده .

والضرب الثاني : الذي لا يجوز النسخ فيه فهو قبل اعتقاد المنسوخ والعلم به فلا [ ص: 81 ] يجوز أن يرد النسخ قبل العلم بالمنسوخ لأن من شرط النسخ أن يكون بعد استقرار الفرض ليخرج عن البداء إلى الإعلام بالمدة .

فإن قيل : فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المعراج أن الله تعالى فرض على أمته خمسين صلاة فلم يزل يراجع ربه فيها ويستنزله حتى استقر الفرض على خمس فدل على جواز النسخ قبل العلم بالمنسوخ .

قيل : هذا إن ثبت فهو على وجه التقرير دون النسخ : لأن الفرض يستقر بنفوذ الأمر ولم يكن من الله تعالى فيه أمر إلا عند استقرار الخمس .

والضرب الثالث : المختلف فيه فهو ورود النسخ بعد اعتقاد المنسوخ وقبل العمل به

وفيه لأصحابنا ثلاثة أوجه :

أحدها : لا يجوز نسخه بعد اعتقاده وقبل العمل به كما لا يجوز نسخه قبل الاعتقاد لما ذكرنا من التعليل ليخرج من البداء إلى النسخ .

والوجه الثاني : يجوز نسخه بعد الاعتقاد وقبل العمل ، كما يجوز نسخه بعد العمل ، لأن الاعتقاد من أعمال القلب ، فكان كالنسخ بعد العمل ، ويكون مراد الله تعالى به الاعتقاد دون العمل اختبارا لطاعتهم ، كما أمر الله تعالى إبراهيم بذبح ابنه ثم نهاه عنه قبل ذبحه فقال فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين

[ الصافات : 102 ] . فاختبر بذلك طاعته ونهاه بعد الاعتقاد وقبل الفعل .

والوجه الثالث : أنه لا يجوز النسخ إلا أن يمضي بعد الاعتقاد زمان يمكن العمل به وإن لم يعمل به لاختصاص النسخ بتقدير مدة التكليف وذلك موجود بمضي زمانه . فإذا استقر النسخ بما بيناه لزم فرضه في الحال لكل من علم به من الحاضرين . وأما فرضه على الغائبين عنه ففيه وجهان :

أحدهما : يجب فرضه عليهم في الحال كالحاضرين وإن لم يعلموا به إلا بعد حين : لأن الله تعالى قد عمهم بفرضه ولم يخص به حاضرا من غائب .

والوجه الثاني : وهو - أشبه أن فرضه يجب عليهم بعد علمهم به وإن تقدم فرضه على غيرهم عن علم كما يلزم الحاضرين فرضه بعد إبلاغ الرسول وإن تقدم فرضه على الرسول ولذلك استدار أهل قباء في صلاتهم إلى بيت المقدس وتحولوا إلى الكعبة فبنوا على ما تقدم قبل علمهم ، وقال ابن عمر : كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها فانتهينا ولم يتراجعوا فيما تقدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية