الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 115 ] فصل : وأما الفصل الرابع في معارضة الاختلاف والإجماع : فينقسم أربعة أقسام :

أحدها : أن يحدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصر واحد ، مثل أن يتقدم إجماع الصحابة ثم يحدث من أحدهم خلاف ، فهذا الخلاف الحادث مانع من انعقاد الإجماع ، كما أظهر ابن عباس خلافه في العول بعد موت عمر وارتفع بخلافه انعقاد الإجماع في العول وكالذي رجع عنه علي في بيع أمهات الأولاد فارتفع برجوعه الإجماع .

والقسم الثاني : أن يحدث الإجماع بعد تقدم الخلاف في عصر واحد ، فهذا الإجماع الحادث يرفع الخلاف المتقدم كاختلاف الصحابة في قتل مانعي الزكاة ثم وافقوا أبا بكر عليه بعد تقدم خلافهم له ، فيرتفع الخلاف بالإجماع .

وفي هذا الإجماع وجهان :

أحدهما : أنه أوكد من إجماع لم يتقدمه خلاف ، لأنه يدل على ظهور الحق بعد التباس .

والوجه الثاني : أنهما سواء : لأن الحق مقترن بكل واحد منهما .

والقسم الثالث : أن يحدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصرين مختلفين كإجماع الصحابة وخلاف التابعين لهم فهو على ضربين :

أحدهما : أن يخالفوهم مع اتفاق الأصول في المجمع عليه ، فهذا الخلاف الحادث مطرح والإجماع المتقدم منعقد ، لأن حجة الإجماع قاهرة .

والضرب الثاني : أن يحدث في المجمع عليه صفة زائدة أو ناقصة فيحدث الخلاف فيها بحدوث ما اختلف من صفاتها فيكون الإجماع في الصفات منعقدا وحدوث الاختلاف في الصفات المختلفة سائغا عند الشافعي وأكثر الفقهاء .

وذهب داود وطائفة من أهل الظاهر إلى استصحاب حكم الإجماع فإن اختلاف الصفات الحادثة لا يبيح اختلاف الحكم فيها إلا بدليل قاطع ، وجعلوا استصحاب الحال حجة في الأحكام ، ومثال هذا أن ينعقد الإجماع على إبطال التيمم برؤية الماء قبل الصلاة فإذا رأوه في الصلاة أبطلوا تيممه استصحابا لبطلانه قبل الصلاة ، من غير أن يجمعوا بينهما بقياس كما لو استيقن الطهر وشك في الحدث وجب أن يستصحب حكم اليقين ويلغي حكم الشك .

وهذا فاسد ، ولكل حال تجددت حكم توقف على الدليل ، يجوز أن يكون مساويا ، ويجوز أن يكون مخالفا ، ويكون الإجماع حجة في الحال التي ورد فيها ، ولا [ ص: 116 ] يكون حجة في غيرها ، إلا أن يكون القياس موجبا لاستصحاب حكمه ، فإن الإجماع أصل يجوز القياس عليه ، فيكون القياس هو الذي أوجب استصحاب حكم الإجماع ، لا الإجماع .

وإنما كان كذلك : لأنه لما ساغ الاجتهاد فيما عدا حالة الإجماع ولم يسغ الاجتهاد في حالة الإجماع دل على افتراقهما فيه ، ولم يلزم أن يساويه في حكم . فأما حمل الطهارة على اليقين فلأن الشرع لم ينصب عليها دليلا .

وذهب بعض أصحابنا إلى أن استصحاب الحال إن لم يعارضه دليل يجوز أن يجعل دليلا .

وقوله مدفوع بما ذكرنا .

ويتفرع على هذا : إذا اختلف أهل الاجتهاد في حكم فأثبته بعضهم ونفاه بعضهم :

قال داود وأهل الظاهر : لا دليل على النافي ويجب الدليل على المثبت استصحابا لحكم الأصل في النفي كما تجب البينة على المدعي دون المنكر .

وعند الشافعي وجمهور الفقهاء أن الدليل يجب على النافي كوجوبه على المثبت وأنه لا يجوز له نفي الحكم إلا بدليل كما لا يجوز له إثباته إلا بدليل : لأن الله تعالى قد نصب على الأحكام أدلة الإثبات والنفي . والنافي للحكم مثبت لضده فلم يجز نفيه إلا بدليل كما لم يجز له إثباته إلا بدليل .

فأما وجوب البينة على المدعي دون المنكر فلأن يمين المنكر كبينة المدعي فصارا مجتمعين على البينة . وإن اختلفا في صفتهما .

والقسم الرابع : أن يحدث الإجماع بعد الخلاف في عصرين مختلفين ، كاختلاف الصحابة في حكم على قولين فيجمع التابعون على أحدهما ، فالظاهر من مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن حكم الاختلاف ثابت ، وأن ما تعقبه من الإجماع غير منعقد ، لأن انقراض الصحابة على قولين في حكم إجماع منهم على تسويغ الاجتهاد في ذلك الحكم . وفي انعقاد الإجماع بعد إبطال ما أجمعوا عليه من تسويغ الاجتهاد فيه فصار في إثبات إجماع التابعين إبطال إجماع الصحابة فلم يجز .

وقال الحارث بن أسد المحاسبي وتابعه فيه بعض أصحاب الشافعي قد زال حكم الاختلاف بما تعقبه من الإجماع كما يزول اختلاف الصحابة إذا تعقبه إجماعهم .

وهذا فاسد ، لأن إجماع الصحابة لا ينعقد إلا بانقراضهم فلذلك وقع الفرق بين انقراضهم على اختلاف أو إجماع . [ ص: 117 ] فعلى هذا لو اختلف الصحابة على قولين في حكم لم يتعدوه إلى ثالث صار ذلك إجماعا منهم على إبطال ما عدا القولين فلم يجز لمن بعدهم من التابعين إحداث قول ثالث .

مثاله أن الصحابة انقرضوا على قولين في ابني عم أحدهما أخ لأم ، فذهب بعضهم إلى التسوية بينهما في الميراث ، وذهب آخرون منهم إلى أن الأخ من الأم منهما أحق بالميراث فخالفهم من التابعين سعيد بن جبير فجعل ابن العم الذي ليس بأخ لأم أحق بالميراث فخالفهم في القولين بإحداث قول ثالث فذهب بعض من ينتسب إلى العلم إلى تسويغ هذا : لأن الاختلاف موجب لتسويغ الاجتهاد .

وهذا فاسد : لأن في انقراض الصحابة على قولين إجماعا منهم على إبطال ما خرج عن القولين ، وأن الحق في أحدهما ، فلم يجز للتابعي أن يبطل ما انعقد إجماعهم عليه فهذا حكم الإجماع وما يتعلق به ويتفرع عليه .

وهو من دلائل السمع .

ويجوز نقله بأخبار الآحاد ، لأنه ليس بأوكد من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

فإن نقل الراوي أنهم أجمعوا على كذا فقطع بإجماعهم عليه قبل منه وأثبت الإجماع بقوله سواء كان الراوي من أهل الاجتهاد أو لم يكن .

فإن قال الراوي لم أعرف بينهم اختلافا فيه فإن لم يكن من أهل الاجتهاد ولا ممن أحاط علمه بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بروايته .

واختلف أصحابنا في ثبوته بها إن كان من أهل الاجتهاد والتقدم في العلم بالإجماع والاختلاف فأثبت بعضهم الإجماع بها وجعل نفي الاختلاف إثباتا للإجماع ، وامتنع آخرون من إثبات الإجماع بهذا النفي ولكلا القولين توجيه والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية