الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فإذا استقر ما ذكرناه من شروط الاجتهاد المعتبرة في المجتهد تعلق به فصلان :

أحدهما : جواز اجتهاد الأنبياء .

والثاني : جواز الاجتهاد في زمان الأنبياء .

[ جواز اجتهاد الأنبياء ] :

فأما اجتهاد الأنبياء فقد اختلف فيه أهل العلم .

فذهب بعض الأئمة إلى أنه لا يجوز للأنبياء أن يجتهدوا ولا لنبينا - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد لقدرتهم على النص بنزول الوحي عليهم وقد قال الله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] . ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقف في إحرامه ولم يجتهد حتى نزل عليه القضاء وتوقف في اللعان حتى نزل عليه القرآن . وتوقف في ميراث الخالة والعمة حتى نزل عليه جبريل بأن لا ميراث لهما . ولو ساغ له الاجتهاد لسارع إليه ولم يتوقف .

وذهب جمهور أهل العلم وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء أن يجتهدوا لقوله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان [ الأنبياء : 78 - 79 ] . ولو لم يكن اجتهاد الأنبياء سائغا وكان جميع أحكامهم نصا لما أخطأ داود ولا أصاب سليمان . ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتهد في أسرى بدر وفيمن اشترط رده في صلح الحديبية .

فأما توقفه في اللعان وفي ميراث الخالة والعمة فليعلم هل ينزل عليه نص فلا يجتهد أو يتأخر عنه فيجتهد ، ولأن جواز الاجتهاد فضيلة فلم يجز أن يدفع عنها الأنبياء وإنما الوحي بحسب الأصلح .

فإذا صح اجتهاده فقد اختلفت أصحابنا في وجوبه وجوازه على وجهين :

أحدهما : أنه جائز ، وليس بواجب ، لأن للأحكام أصلا هو الكتاب .

والوجه الثاني : أنه واجب عليه ، لأن الأحكام مأخوذة من سنته إذا خلا الكتاب منها .

وعندي أن الأصح من إطلاق هذين الوجهين أن يكون اجتهاده واجبا عليه في حقوق الآدميين ، وجائزا له في حقوق الله تعالى ، لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا باجتهاده ، فلزمه وإن أراد الله تعالى منه الاجتهاد في حقوقه أمره .

[ ص: 122 ] ثم إذا اجتهد فقد اختلف أصحابنا هل يستبيح الاجتهاد برأيه أو يرجع فيه إلى دلائل الكتاب ؟ على وجهين :

أحدهما : أنه يرجع في اجتهاده إلى الكتاب ، لأنه أعلم بمعاني ما خفي منه من جميع أمته ، فكان اجتهاده بيانا وإيضاحا .

والوجه الثاني : وهو أظهر أنه يجوز أن يجتهد برأيه ولا يرجع إلى أصل من الكتاب ، لأن سنته أصل في الشرع مثل الكتاب قد ندب الله تعالى إليها ، فقال : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ الحشر : 7 ] . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " إنما أجتهد رأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء " .

واختلف أصحاب الشافعي في عصمة اجتهاد الأنبياء من الخطأ على وجهين :

أحدهما : أنهم معصومون في اجتهادهم من الخطأ لتسكن النفس إلى التزام أوامرهم بانتفاء الخطأ عن اجتهادهم .

وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه أنهم لا يجتهدون إلا عن دليل من نص .

والوجه الثاني : أنهم غير معصومين من الخطأ فيه لوجوده منهم لكن لا يقرهم الله تعالى عليه ليزول الارتياب به وإن جاز أن يكون غيرهم من العلماء مقرا عليه ، لأن داود قد أخطأ في اجتهاده فاستدركه الله بإصابة سليمان ، واجتهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسرى بدر بعد مشاورة أبى بكر وعمر ، وأخذ منهم الفداء فأنكره الله تعالى عليه بقوله : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض [ الأنفال : 67 ] .

وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه إنهم يجوز أن يجتهدوا بالرأي من غير استدلال بنص .

وذهب ابن أبي هريرة إلى أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - معصوم الاجتهاد من الخطأ دون غيره من الأنبياء ، لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه لانختام النبوة به وغيره من الأنبياء قد بعث بعده من يستدرك خطأه .

وهذا القول لا وجه له ، لأن جميع الأنبياء غير مقرين على الخطأ في وقت التنفيذ ولا يمهلون فيه على التراخي حتى يستدركه نبي بعد نبي فاستوى فيه جميع الأنبياء .

فهذا حكم اجتهادهم في أحكام الدين .

فأما أمور الدنيا فيجوز على الأنبياء فيها الخطأ والسهو روي " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع ضجة بالمدينة فقال : ما هذا ؟ قيل : إنهم يلقحون النخل . فقال : وما ينفع ذلك أنهم لو تركوه لم يضرهم فبلغهم ذلك فتركوه فقل حمل النخل فقال عليه السلام : ما كان من أمر دينكم فردوه إلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به " .

التالي السابق


الخدمات العلمية