الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
[ ص: 123 ] فصل : جواز الاجتهاد في زمن الأنبياء :

وأما جواز اجتهاد غير الأنبياء في زمان الأنبياء كاجتهاد الصحابة في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فينقسم ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون المجتهد غائبا عن مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - غير قادر على سؤاله في

وقته فله حالتان :

إحداهما : أن يكون له ولاية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعلي ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن داعيين إلى الإسلام وحاكمين بين الخصوم وواليين على الصدقات ، فيجوز اجتهاد ذي الولاية في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن معاذا أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باجتهاد رأيه فاستصوبه وحمده . وسواء اجتهد في حق نفسه أو في حق غيره ، ولا يلزمه إذا قدم على الرسول أن يسأله عما اجتهد فيه وإن كان سؤاله مستحبا ، ويكون ما اجتهد فيه أثرا متبوعا ما لم يرد عن الرسول خلافه كما اتبع معاذ في قوله : " أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته في مخلاف عشيرته " والمخلاف القرية . وإنما اختص المولى بذلك ، لأن في الولاية إذنا بالاجتهاد فيما تضمنها .

والحالة الثانية : أن لا يكون للمجتهد ولاية فله حالتان :

إحداهما : أن يظفر بأصل من كتاب أو سنة فيجوز اجتهاده في الرجوع إلى الاستدلال بالظاهر منهما ولا يلزمه إذا قدم على الرسول أن يسأله عما اجتهد فيه ، لأنه قد أخذ بأصل لازم .

والحالة الثانية : أن يعدم أصلا من كتاب أو سنة فلا يجوز أن يجتهد في حق غيره لعدم ولايته .

فأما اجتهاده في حق نفسه : فإن كان فيما يخاف فواته جاز اجتهاده فيه وعليه إذا قدم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله عنه ، وليس عليه أن يهاجر إليه لأجل السؤال .

وإن كان مما لا يخاف فواته ففي جواز اجتهاده وجهان :

أحدهما : لا يجوز أن يجتهد ، لأنه لا يصح منه أن يشرع وعليه أن يسأل ليعمل بما كلف .

والوجه الثاني : يجوز أن يجتهد إذا كان من أهل الاجتهاد ويعمل باجتهاده لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت بالحنيفية السهلة السمحة البيضاء " .

فعلى هذا في جواز تقليده في اجتهاده وجهان :

[ ص: 124 ] أحدهما : لا يجوز لغيره ممن ليس من أهل الاجتهاد أن يقلد فيه لوجود ما هو أقوى منه فعلى هذا لا يلزم المجتهد إذا قدم على الرسول أن يسأله عما اجتهد فيه ولا يجوز أن يعمل به في المستقبل حتى يسأل إن حضر .

والوجه الثاني : يجوز لغيره أن يقلده كما يجوز أن يقلد العالم وإن وجد من هو أعلم منه فعلى هذا يلزم المجتهد إذا قدم على الرسول أن يسأله عما اجتهد فيه لئلا يصير مشرعا بغير أصل .

والقسم الثاني : أن يكون المجتهد حاضرا في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغائبا عن مجلسه .

فإن رجع في اجتهاده إلى أصل من كتاب أو سنة صح وجاز أن يعمل به ويفتي ، قد سأل العجلاني بعض الصحابة " بالمدينة " عن قذف امرأته بين أسماء ففال له : حد في جنبك إن لم تأت بأربعة شهداء ، ثم سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما قيل له فتوقف حتى نزلت عليه آية اللعان ، ولم ينكر على العجلاني سؤال غيره ، ولا أنكر على من أجابه مع حضوره .

وإن لم يرجع المجتهد إلى أصل من كتاب ولا سنة فقد جوز بعض أصحابنا اجتهاده وأنكره بعضهم .

ولا يعجبني واحد من القولين على الإطلاق .

والذي أراه أنه يصح اجتهاده في المعاملات ولا يصح اجتهاده في العبادات لأن العبادات تكليف يتوقف على الأوامر بها والمعاملات تخفيف تعتبر النواهي عنها .

والقسم الثالث : أن يكون المجتهد حاضرا في مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاجتهاده معتبر بأمر الرسول .

فإن أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد صح اجتهاده كما حكم - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل من جرت عليه المواس واسترقاق من لم تجر عليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا حكم من فوق سبعة أرقعة .

وإن لم يأمره بالاجتهاد لم يصح اجتهاده إلا أن يعلم به فيقره عليه فيصير بإقراره عليه صحيحا كما قال أبو بكر بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سلب القتيل وقد حصل مع غير قاتله : " لا هاء الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه " . فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا القول فصح اجتهاده حين أقره عليه .

وقد اضطربت أجوبة أصحابنا في هذا الموضع ، والأصح عندي ما ذكرناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية