الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : [ في حكم الاجتهاد ] :

وأما الفصل الرابع في حكم الاجتهاد فليس يخلو حال حكم المجتهد فيه من أن تتفق عليه أقاويل المجتهدين أو تختلف .

فإن اتفقت عليه أقاويلهم صار إجماعا تعين فيه الحق وسقط فيه الاجتهاد من بعده كسقوط الاجتهاد مع نصوص الكتاب والسنة لأن الإجماع حجة قاطعة بعد الكتاب أو السنة .

وإن اختلفت فيه أقاويل المجتهدين فهو على ضربين :

[ ص: 128 ] أحدهما : أن يكون الاختلاف في أصول التوحيد وصفات الذات ، فالحق فيها واحد وهو الذي كلف العباد طلبه ، وما عداه باطل فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب في الحق ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأخطأ في الحق . وهذا قول جمهور الفقهاء والمتكلمين .

وشذ عنهم عبيد الله بن الحسن العنبري فجعل كل مجتهد مصيبا في الأصول والفروع .

والجمع بينهما خطأ فاحش ، لأن أصول التوحيد وصفات الذات لا تختلف فلم يصح تجويز الاختلاف فيها ، وأحكام الشرع قد تختلف بحسب المصالح في الأعيان والأزمان فجاز أن يكون الخلاف مسوغا فيها .

والضرب الثاني : من اختلاف المجتهدين : أن يكون في الأحكام الشرعية من العبادات والمعاملات كاختلاف الصحابة في أحكام الصلاة والزكاة والصيام وفي مقاسمة الإخوة للجد وفي توريث الجدة وابنها حي وفيمن قال لامرأته : أنت علي حرام وما أشبه ذلك .

فقد اختلف الفقهاء والمتكلمون في هذا الاختلاف :

فذهب أكثر المتكلمين إلى أن الحق في جميعها ، وأن كل مجتهد فيها مصيب عند الله ومصيب في الحكم : لأن جواز اختلاف الجميع دليل على صحة الجميع .

وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحدها وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين : لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالا وحراما : لأن ما حل لشخص في حال لم يكن حراما عليه في تلك الحالة لتنافيه وتناقضه ، ولأن المختلفين في اجتهادهم في القبلة إلى أربع جهات لا يدل على أن القبلة في الجهات الأربع .

وإذا ثبت أن الحق في أحدها وإن لم يتعين فقد اختلف الفقهاء : هل كل مجتهد فيها مصيب أم لا .

فمذهب الشافعي وما ظهر منه في أكثر كتبه أن المصيب منها واحد ، وإن لم يتعين وإن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد ، فمن أصاب الحق فقد أصاب عند الله وأصاب في الحكم ، ومن أخطأ الحق فقد أخطأ عند الله ، وأخطأ في الحكم .

وهذا مذهب مالك : لأن الحق لما كان في واحد لم يكن المصيب إلا واحدا .

وقال أبو يوسف وطائفة من أهل العراق : كل مجتهد مصيب وإن كان الحق في [ ص: 129 ] واحد فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب في الحكم . ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأصاب في الحكم .

وقد حكى هذا القول عن الشافعي بعض أصحابه ، لأن له في وجوب القضاء على من تيقن الخطأ في القبلة قولين فمنهم من أثبته وخرجه قولا ثانيا ، ومنهم من أنكره . وقيل : إن مذهب أبي حنيفة في هذا مختلف فيجعل في بعض المسائل كل مجتهد مصيبا ، وإن كان الحق في واحد كقول أبي يوسف ، ويجعل في بعض المسائل كل مجتهد مخطئا إلا واحدا ، لأن الحق واحد كقولنا .

ولو كان كل مجتهد مصيبا ما أخطأ مجتهد ، وقد نسب الله تعالى نبيه داود إلى الخطأ وسليمان إلى الإصابة بقوله تعالى : ففهمناها سليمان وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر " فنسبه إلى الخطأ وإن جعل له أجرا .

فإن قيل : فلو اختلفا في الإصابة لما شورك بينهما في الأجر .

قيل : ولو اتفقا في الإصابة لما فوضل بينهما في الأجر .

وقد خطأ الصحابة بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه : فقال ابن عباس : " ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا " وقال في العول " من شاء باهلته عند الحجر الأسود ، والذي أحصى رمل عالج عدا ما جعل الله في المال نصفين وثلثا ، هذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين الثلث " وقال علي لعمر في المجهضة حين قال له عثمان وعبد الرحمن : لا شيء عليك إنما أنت معلم فقال له علي : إن كانا ما اجتهدا فقد غشا وإن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ فعليك الدية فلم ينكروا خطأ المجتهد .

فإن قيل : لما استجازوا أن يولوا من خالفهم في الاجتهاد دل على أن كل مجتهد مصيب ، ولو كان مخطئا لما استجازوا تولية مخالف ، قيل قد أنكر علي على شريح حين خالفه في ابني عم أحدهما أخ لأم ، وقال : علي بالعبد الأبطر وعزله عن القضاء .

على أن نفوذ الاجتهاد عين الحكم ، وقد يجوز أن يتفقا عليه وقت الحكم .

ولأن تصويب كل المجتهدين يؤدي إلى تصويب من نفى تصويب المجتهدين فصار ما ذهب إليه من التصويب راجعا عليه في إبطال التصويب . فإذا صح أن جميعهم مخطئ في الاجتهاد إلا واحدا هو المصيب منهم وإن كان غير متعين فالمصيب منهم مأجور على الاجتهاد وعلى الصواب ، وأما المخطئ فغير مأجور على الخطأ .

واختلف في أجره على الاجتهاد :

فمذهب الشافعي أنه مأجور عليه وإن أخطأ فيه لقصد الصواب وإن لم يظفر به .

وقال الأصم وابن علية هو مأثوم على الاجتهاد لخطئه فيه .

[ ص: 130 ] وقالت طائفة من أهل العراق : ليس بمأجور عليه ولا مأثوم فيه .

ودليلنا قول النبي عليه السلام : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " .

وكان شيخنا أبو القاسم الصيمري لأجل هذا يقول : إن كل مجتهد مصيب في أنه أدى ما كلف من الاجتهاد ، مخطئ للحكم الذي أراده الله تعالى إلا واحدا . وليس هذا بصحيح لأنه كلف الاجتهاد المؤدي إلى الصواب ولم يكلف الاجتهاد المؤدي إلى الخطأ ، وإنما استحق الأجر بنيته في طلب الحق وبما تكلفه من الاجتهاد الذي اعتقد أنه حق وإن لم يكن بحق .

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " نية المرء من خير من عمله " .

وفيه ثلاثة تأويلات :

أحدها : أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه في الاجتهاد .

والثاني : يعني أن نيته خير من خيرات عمله .

والثالث : أن النية أوسع من العمل : لأنها تسبق الأقوال والأفعال فيعجل الثواب عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية