الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
حجية القياس :

والقياس : أصل من أصول الشرع وحجة تستخرج بها أحكام الفروع المسكوت عنها ، يجب العمل به عند عدم النصوص والإجماع ، والنصوص في الأحكام متعلقة بمعانيها إذا عقلت وبالأسماء إذا جهلت ، ويكون اختلافها على حسب ما ورد به الشرع بها .

وهذا قول جمهور الفقهاء والمتكلمين وإن اختلفوا في طريق إثباته فأثبته أكثرهم دليلا ، وأثبته شاذ منهم دليلا بالعقل .

وذهبت طائفة إلى إبطال القياس ، وأنه لا يجوز أن يعمل به في الشرع ، ولا [ ص: 137 ] يستدل به على حكم في فرع ، وأن الأحكام متعلقة بالأسماء دون المعاني .

وهذا قول النظام وداود والقاساني والمغربي والنهربيني والشيعة .

واختلفوا في طريق نفيه .

فنفاه بعضهم بالعقل .

ونفاه بعضهم بالشرع .

ونفاه داود بأن الشرع لم يرد به ولو ورد به لجاز أن يكون دليلا فيه .

وهذا خلاف حدث منهم في نفيه بعد أن تقدم بإثباته إجماع الصحابة والتابعين استدلالا من وجهين : ظاهر منقول ومعنى معقول .

فأما الظاهر : فمن وجهين : الكتاب والسنة .

فأما الكتاب : فقوله تعالى : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ الحشر : 2 ] .

وفي الاعتبار وجهان :

أحدهما : أنه مأخوذ من العبور ، وهو تجاوز المذكور إلى غير المذكور ، وهذا هو القياس . والثاني : أنه مأخوذ من العبرة : وهي اعتبار الشيء بمثله ومنه عبرة الخراج أن يقاس خراج عام بخراج غيره في المماثلة .

وفي كلا الوجهين دليل على القياس ، لأنه أمر أن يستدل بالشيء على نظيره وبالشاهد على الغائب .

وقال تعالى : " وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة : [ يس : 87 - 79 ] .

فجعل خلق الأشياء دليلا على إحياء الموتى ، وهذا قياس يستمر في قضايا العقول ، ولولا القياس ما صار دليلا . .

وقال تعالى : ، ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء [ الروم : 28 ] .

فجعل عبيدنا لما لم يشاركونا في أملاكنا دليلا على أن ما خلق لا يجوز أن يشاركه في عبادته ، وبقياس العقل صار هذا دليلا .

وقال تعالى : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ النساء : 83 ] .

[ ص: 138 ] فأولو الأمر هم العلماء والاستنباط هو القياس ، فصارت هذه الآية كالنص في إثباته .

وقال تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] .

وقال : تبيانا لكل شيء [ النحل : 89 ] .

فدل على أن ليس من حادثة إلا ولله فيها حكم قد بينه من تحليل أو تحريم وأمر ونهي .

وقد تجد أكثر الحوادث غير منصوص على أحكامها ، والمسكوت عنه أكثر من المذكور فدل على أن ما أخفاه مستنبط مما أبداه وأن الجلي دليل على الخفي لنص الكتاب تبيانا لكل شيء وما فرط فيه من شيء فتكمل بقياس السمع أحكام الدين كما كمل بقياس العقل أحكام الدنيا .

وأما السنة : فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين قلده قضاء اليمن : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله ، فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي قال : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " .

فدل على جواز الاجتهاد في الأحكام عند عدم النص وأن كل الأحكام ليست مأخوذة عن نص فصار القياس أصلا بالنص .

فإن قيل : فالقياس أصل في الشرع ، وهذا خبر واحد لا تثبت به الأصول الشرعية ؟ قيل : قد تلقته الأمة بالقبول فجرى مجرى التواتر .

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر - عليه السلام - حين سأله عن قبلة الصائم : " أرأيت لو تمضمضت ؟ " فجعل القبلة بغير إنزال قياسا على المضمضة بغير ازدراد .

وأتاه رجل فقال : يا رسول الله إن لي أولادا بيضا وفيهم أسود فما باله من بينهم ؟ فقال له النبي - عليه السلام - : " ألك إبل عبس ؟ يعني بيضا فقال : نعم فقال : فهل فيها من أورق ؟ قال : نعم قال : فمن باله من بينهم ؟ قال : لعل عرقا نزعه قال : لعل عرقا نزع هذا " فاعتبر اختلاف ألوان أولاده باختلاف ألوان نتاجه فقاس أحدهما على الآخر .

ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزا حين زنا لعله دليلا على رجم غيره من الزنا قياسا عليه .

وقال - عليه السلام - في بيع التمر بالرطب : أينقص إذا يبس ؟ قيل نعم قال : فلا إذن .

وقيل له لما أراد أن يقطع الأبيض بن حمال ملح مأرب : أنه كالماء العيد قال : " فلا إذن " . فعلل الأحكام بالمعاني .

ولأن الصحابة قد أجمعت على القياس عند اختلافهم في توريث الإخوة مع الجد [ ص: 139 ] فجعله من أسقط به ميراث الإخوة كالأب في إسقاطهم اعتبارا بأن ابن الابن كالابن في إسقاطهم وجعله من ورث الإخوة معه كالأب لا يسقط بنسوة وشبهه بشجرة ذات أغصان وبواد سال منه شعبان وجعله قياسا معتبرا فيه .

وأوجبوا نفقة الأب في حال عجزه قياسا على نفقة الابن " .

وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري عهده على قضاء البصرة : " الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك ليس في كتاب ولا سنة ، فاعرف الأمثال والأشباه ، وقس الأمور بنظائرها " .

وانتشر هذا العهد في الصحابة فما أنكره منهم أحد فدل على أنهم مجمعون على إثبات القياس قولا وعملا ، وهم القدوة المتبعون ، والنقلة المطاعون ، نأخذ عنهم ما تحملوه ، ونقتدي بهم فيما فعلوه ، وقد اجتهدوا وقاسوا .

ولو كانت الأحكام نصوصا كلها لنقلوها وعدلوا عن الاجتهاد فيها ، كما عدلوا عن اجتهادهم في دية الجنين ، حين روى حمل بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قضى فيه بغرة عبد وأمة " وعدلوا عن المخابرة حين روى رافع بن خديج النهي عنها ، ليس يدفع مثل هذا الحجاج إلا ببهت أو عناد .

[ أدلة القائلين بحجية القياس ] :

فأما الاستدلال بالمعاني المعقولة فمنها :

أن النص لم يحط بجميع الأحكام ولا يخلو ما عدا أحكام النصوص من الفروع والحوادث من أن يكون لله تعالى فيها حكم أو لا يكون .

ولا يجوز أن يقال : لا حكم له فيها وقد قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 4 ] .

وإذا كان له فيها حكم لم يخل من أن يكون معلوما أو مجهولا .

فلم يجز أن يكون مجهولا : لأن التزام المجهول ممتنع لتردده بين ضدين .

وإذا كان معلوما لم يجز أن يحمل جميعها على الإباحة ، لأن فيها محظورا ، ولا على الحظر ، لأن فيها مباحا .

ولا يتميز المباح والمحظور إلا بدليل .

وهذا يوجب أن يكون في غير النص دليل .

وليس بعد النص إلا القياس على النص .

فإن منعوا أن تختلف أحكام ما عدا النص ، وحملوا جميعها على الحظر عند عدم [ ص: 140 ] السمع أو على الإباحة بطل من وجهين :

أحدهما : أنهم قد حكموا فيها بغير نص وهم يمنعون منه .

والثاني : أن يقال لهم أرأيتم من غاب عن القبلة وخفيت عليه جهتها هل يحمل في ترك الصلاة وفي استقبال القبلة على الإباحة أو الحظر . فإن ارتكبوه أبطلوا به فرض الصلاة .

وإن امتنعوا منه بطل أصلهم وقيل لهم : أيصلي إلى جهة القبلة بنص أو استدلال . فإن قالوا بنص بهتوا ولم يجدوا .

وإن قالوا باستدلال ثبت جواز الحكم بالاستدلال عند عدم النص .

وهذا لو جعل دليلا لكان مقنعا .

ودليل آخر : هو أنه لما استقر في فطر العقول أن يستدل بالشاهد على الغائب ، ويجمع بين المتماثلين في الشبه ، ويسوى بين المتفقين في المعنى وجب أن يكون في قضايا السمع استدلال بالشاهد على الغائب والجمع بين المتماثلين في الشبه والمتفقين في المعنى استدلالا بالعقل والسمع .

فأما العقل فشواهده واضحة .

وأما السمع فقد استقر في الاستدلال بالشاهد على الغائب في القبلة بقوله : الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 144 و 150 ] .

وفي الجمع بين المشتبهين في المماثلة في جزاء الصيد بقوله : فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] .

وفي التسوية بين المتفقين في المعنى لاعتبار الرق في حد العبد بالزنا بحد الأمة بقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ النساء : 25 ] .

فإن منعوا من ذلك بأن أحكام العقل متفقة وأحكام السمع مختلفة فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر .

قيل : نحن نقيس على أحكام السمع ما وافقها كما نقيس على أحكام العقل ما وافقها فصار كل واحد منهما أصلا لفروعه في المماثلة .

فإن قيل : فقد فرق السمع بين متماثلين وجمع بين مفترقين وهذا في أحكام العقول ممتنع .

قيل : القياس مستعمل عند عدم السمع وإذا ورد السمع بالجمع بين مفترقين ، وبالفرق بين مجتمعين ، علمنا أن الله تعالى منع من استعمال القياس فيه ، وإذا عدم السمع في الأمثال والأشباه علمنا أن الله تعالى لم يخالف بين أحكامها ، واستعملنا [ ص: 141 ] القياس فيها ويكون خروجها عن السمع دليلا على وجوب الجمع فتصير بالسمع مختلفة وبعدمه متفقة .

فهذه أدلة في إثبات القياس وإن حذفت أكثرها .

[ أدلة من نفى القياس ] :

واستدل نفاة القياس بظواهر ومعان :

فأما الظاهر : فمن كتاب وسنة .

فأما الكتاب : فاستدلوا منه بقوله تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ النساء : 59 ] . وهذا نفي للقياس .

وقال تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ الإسراء : 36 ] ، وهذه صفة القائس .

وقال تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ النجم : 3 - 4 ] .

وليس القياس من الوحي .

وقال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام والقائس مفتر .

وقال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ يونس : 59 ] . ؟ والقائس يحل ويحرم فصار مفتريا .

وهذه الآي الخمس أقوى دليل استدلوا به من ظاهر الكتاب وإن أكثروا .

والجواب عنها من وجهين :

أحدهما : أن يعاد عليهم فيما حكموا به من نفي القياس فيقال لهم : قد نفيتموه بما ليس لكم به علم ، وما لم ينزل به وحي ، وبما لم تردوه إلى الله والرسول فتساوى الاستدلال بها .

والثاني : أن القائس لا يحل ولا يحرم وإنما يستدل به على ما أحله الله وحرمه ، فليس يحكم إلا عن واجبات النصوص .

وأما استدلالهم بالسنة : فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال ولكن يقبض العلم بموت العلماء فإذا ماتوا اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .

[ ص: 142 ] وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنما أهلك من كان قبلكم من بني إسرائيل لحكمهم بآرائهم فإنه ما زال أمرهم صالحا حتى حدث فيهم أولاد السبايا فقاسوا الأمور بآرائهم فضلوا وأضلوا " قالوا : وهذا نص .

وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة أعظمهم فتنة الذين يقيسون الأمور بآرائهم " .

وكذلك قال أبو بكر - رضي الله عنه - : " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا حكمت في كتاب الله برأيي .

فهذه الأحاديث الثلاثة أقوى ما استدلوا به من السنة وإن أكثروا .

والجواب عنها من وجهين :

أحدهما : أنها محمولة على من قاس مع وجود النص ، كما قال تعالى في ثقيف : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] . ومن ذلك قوله في إبليس : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ! [ الأعراف : 112 ] . وقال ابن سيرين : لأول من قاس إبليس يعني من دفع النص بالقياس ويوضح ذلك ما رواه الشعبي ، عن عمرو بن حريث عن عمر بن الخطاب قال : " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " رواه الدارقطني ، فدل هذا من قول على أحد أمرين إما أن يستعملوا القياس مع وجود النص وإما أن يعملوا بالرأي من غير أصل وكلا الأمرين ضلال .

والثاني : أنه مستعمل فيمن حكم برأيه من غير أصل من نص كالاستحسان واتباع الرأي وهذا مذموم ، ولذلك قال الشعبي : لعن الله الرأيية يعني الذين يقولون بآرائهم من غير أصل مشروع .

[ ص: 143 ] وأما ما استدلوا به من المعاني فأظهرها معنيان :

أحدهما : إن قالوا : قد استقر في فطر العقول أن العلوم المدركة بالحواس يعلم خفيها بما يعلم به جليها ، فما أدرك جليه بحاسة البصر لم يدرك خفيه إلا بها وما أدرك جليه بحاسة السمع لم يدرك خفيه إلا بها .

فوجب في أحكام الدين إذا أدرك جليها بالسمع أن يكون خفيها مدركا بالسمع .

والجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن هذا هو القياس ، لأنهم اعتبروا أحكام السمع بأحكام الحس ، فأثبتوا بالقياس نفي القياس ، وهذا متناقض .

والثاني : أننا نجمع بين أحكام السمع ، وأحكام الحس فنجعل خفيها مأخوذا من خفي السمع كما كان جليها مأخوذا من جلي السمع ، فصارا مثلين .

والمعنى الثاني : إن قالوا : لو كانت الأحكام معلومة لم يجز أن توجد العلل إلا مع وجود أحكامها ، كما لا توجد العلل المعقولة إلا مع وجود أحكامها ، كالحي إذا ذبح فمات ، لما كان الذبح علة الموت لم يوجد الذبح إلا مع الموت ، فلو كانت شدة الخمر علة في تحريمه لوجب أن لا توجد الشدة في وقت إلا والتحريم متعلق بها في ذلك الوقت ، وقد كانت الشدة موجودة فيها وهي غير محرمة ، فإذا حرمت امتنع أن يكون تحريمها معلولا بالشدة ، وتعلق التحريم بالاسم دون العلة .

والجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن هذا يرجع عليهم في تعليق الأحكام بالأسماء ، فقد تعلق بها التحليل في حال والتحريم في أخرى ، وقد جعل الله تعالى للأحكام أعلاما هي أسماء ومعان ، فلما لم يتوجه هذا الاعتراض على الأسماء لم يتوجه على المعاني ، وجاز أن تجعل المعاني علما للتحليل في حال وللتحريم في أخرى ، كما جاز أن تجعل الأسماء علما للتحليل في حال وللتحريم في أخرى ، فلم أبطلوا بهذا أن يكون المعنى علما للتحريم ولم يبطلوا أن يكون الاسم علما للتحريم ؟

والثاني : أن علل العقل موجبة لأعيانها فكانت أحكامها لازمة لعللها ، وأحكام السمع طارئة حدثت عللها بحدوثها ، فاختلفت علل العقل ، وعلل السمع لاختلاف معلولهما في أوائلهما ، وقد استقرت الآن أحكام السمع بارتفاع النسخ فساوت أحكام العقل في الأواخر وإن خالفتها في الأوائل ، فصارت أحكام السمع غير مفارقة لعللها كما كانت أحكام العقل غير مفارقة لها .

التالي السابق


الخدمات العلمية