الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
إذا نسي الحاكم حكمه وشهد به شاهدان .

مسألة : قال الشافعي : " ولو شهد عنده شهود أنه حكم بحكم فلا يبطله ولا يحقه إذا لم يذكره " .

قال الماوردي : وصورتها في خصمين حضرا مجلس القاضي فادعى أحدهما على صاحبه حقا ، وأنكره الآخر . فذكر المدعي للقاضي أنه قد ثبت حقي عليه عندك وحكمت لي به .

فإن ذكر القاضي ذلك وعلمه ، حكم على الخصم به ، سواء قيل إن للقاضي أن يحكم بعلمه أو لا : لأنه ليس هذا منه استئنافا لحكم ، وإنما هو إمضاء وإلزام لما تقدم من حكمه .

[ ص: 208 ] وإن لم يذكر القاضي ذلك وأحضره المدعي خطه ، فقد ذكرنا أنه لا يجوز أن يحكم بخطه إذا لم يذكره .

فإن أحضر المدعي شهودا يشهدون عنده بما ثبت من حقه على خصمه فلذلك ضربان :

أحدهما : أن يشهد الشهود عنده أن المدعى عليه أقر عنده لهذا المدعي بكذا ، سمع القاضي هذه الشهادة ، لأنها شهادة على إقرار المدعى عليه ، وليست بشهادة على حكم القاضي ، وهذا متفق عليه .

والضرب الثاني : أن يشهد الشهود عنده أنه حكم لهذا المدعي على خصمه بكذا لثبوت ذلك عنده بما ذكره من إقرار أو بينة ، فيشهدون عنده بحكمه فقد اختلف الفقهاء فيه .

فمذهب الشافعي أنه لا يجوز للقاضي أن يسمع البينة على حكم نفسه وبها قال أبو يوسف .

وقال أبو حنيفة ومحمد وهو مذهب ابن أبي ليلى :

ويجوز للقاضي أن يسمع البينة على حكم نفسه كما يسمعها على حكم غيره .

استدلالا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع قول ذي اليدين أنه سلم من ركعتين ، واستشهد أبا بكر وعمر على ما قاله ذو اليدين فصدقاه ، فلم يمتنع من قبول شهادتهما على فعل نفسه ، فكان من عداه من الحكام بقبول الشهادة أحق .

ولأنه إجماع الصحابة ، لما رواه حميد ، عن أنس قال : بعث أبو موسى الأشعري بالهرمزان إلى عمر رضي الله عنه ، حين نزل على حكمه ، فلما قدم الهرمزان عليه سكت ، فقال له عمر : تكلم ، فقال : أكلام حي أم كلام ميت ؟ فقال له عمر : تكلم فلا بأس عليك ، فقال : " نحن وأنتم معاشر العرب حيث خلا الله بيننا وبينكم كنا نستعبدكم فلما كان الله معكم فليس لنا بكم يدان ، فأمر عمر بقتله له ، فقال له أنس : كيف تقتله وقد قلت له لا بأس عليك ؟ فقال عمر لأنس : " من يشهد معك ؟ " فشهد معه الزبير ، فقبل شهادتهما ، وأطلقه آمنا ، وفرض له في العطاء ، وكان هذا بمشهد من أعيان الصحابة ، فلم ينكر أحد منهم على عمر سماعه للشهادة على قوله ، فدل على إجماعهم على جوازه .

وقد أجاز المسلمون مثل ذلك في روايات السنن المشروعة : روى ربيعة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد " ونسي سهيل الحديث ، فقال له ربيعة : أنت حدثتني فكان سهيل يقول : [ ص: 209 ] حدثني ربيعة عني عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد " فإذا جاز أن يرجع إلى غيره فيما رواه جاز أن يرجع إليه فيما حكم به . ولأنه كما جاز أن يسمع الشهادة على حكم غيره جاز أن يسمعها على حكم نفسه .

ودليلنا : قول الله تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة [ القيامة : 14 ] .

فوكله في فعله إلى نفسه ، ولم يكله إلى غيره .

ولأنه لما لم يجز أن يعمل على شهادة غيره : أنه قد صلى حتى يعلم ذلك من نفسه وحقوق الله تعالى أوسع حكما من حقوق العباد ، كان بأن لا يسمع الشهادة على حكمه لغيره وعلى غيره أولى ، ولأن الشهادة أخف من الحكم ، لما في الحكم من الإلزام الذي لا تتضمنه الشهادة .

ثم ثبت أن الشاهد إذا نسي شهادته فشهد بها عنده لم يجز أن يعمل على الشهادة فيما يشهد به : فكان الحكم بذلك أولى .

وأما الجواب عن قصة ذي اليدين فمن وجهين :

أحدهما : أنه تذكر بقولهم فعمل على ذكره .

والثاني : أن قولهم أحدث له شكا ، والشك في الصلاة يوجب العمل فيها على اليقين وبهما يجاب عن قصة الهرمزان .

وأما الجواب عن رواية الأخبار ، فلسعة حكمها جاز فيها ما لم يجز في غيرها .

وأما الجواب عن سماع غيره للشهادة ، فهو أن غيره يعمل على غلبة الظن ، فجاز أن يعمل على الشهادة بغلبة الظن ، وهو يعمل في فعل نفسه على اليقين ، فلم يجز أن يعمل بغلبة الظن في الشهادة حتى يقطع بيقين نفسه .

التالي السابق


الخدمات العلمية