الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وما أوجب الاستنجاء على ضربين : نادر ، ومعتاد ، فالمعتاد كالغائط والبول فهو مخير في الاستنجاء منه بين الأحجار والماء ، والنادر كالمذي والودي ودم الناصور ، والقيح . ففي جواز استعمال الأحجار فيه قولان :

أحدهما : يجوز قياسا على المعتاد .

والثاني : لا يجوز فيه إلا الماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنضح الماء على المذي ، ولأنه نادر مما لا يتكرر غالبا في محله فأشبه نجاسة البدن ، فأما دم الحيض فمعتاد ودم الاستحاضة فنادر .

فصل : فإذا ثبت أنه مخير بين الأحجار والماء فإن استعمل الماء وحده أجزأه ، روى عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا فقضى حاجته وخرج علينا [ ص: 161 ] وقد استنجى بالماء ، وإن استعمل الأحجار وحدها واقتصر عليها أجزأه ، وقال أبو حنيفة : إن كان كقدر الدرهم لم يلزمه استعمال الأحجار ، وإن كان أكثر من الدرهم لزمه استعمال الماء ولم يجزه الأحجار فلم يجعل في الاستنجاء موضعا يلزم استعمال الأحجار فيه ، وفيما مضى دليل عليه كاف ، وحكي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كره ذلك ومنع منه إلا في حال ضرورة وقال : قد كان القوم يبعرون بعرا وأنتم تثلطون ثلطا فأتبعوا الحجارة الماء ولعله رضي الله عنه منع من استعماله فيما انتشر عن السبيلين .

وإذا كان الأمر على ما ذكرنا فلا فرق في استعمال الأحجار بين الحضر والسفر مع وجود الماء وعدمه ، والعدد معتبر في استعمالها وهو ثلاث لا يجزئه أقل منها .

وقال مالك وداود : العدد غير معتبر وإنما الإنقاء هو المعتبر فإذا أنقى بحجر واحد أجزأه استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم : " من استجمر فليوتر . واسم الوتر يقع على المرة ولأنه لم يكن العدد معتبرا في الماء الذي هو أصل فأولى ألا يكون معتبرا في الأحجار التي هي فرع ، ولأنه قد وجد الإنقاء فوجب أن يجزئه كالثلاث .

ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم : " وليستنج بثلاثة أحجار " ، وهذا أمر ، وحديث سلمان : لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار ، وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا استنجى أحدكم فليستجمر ثلاثا ، وحديث خزيمة بن ثابت قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء فقال : بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا استجمر أحدكم فليوتر ثلاثا " وروى أبو رزين الباهلي ، عن مالك بن يخامر الباهلي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الاستجمار تو فإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو " والتو : الوتر يريد به ثلاثا .

ولأنها نجاسة شرع إزالتها بعدد فوجب أن يستحق منها ذلك العدد كالولوغ .

فأما الجواب عن قوله : " من استجمر فليوتر " فهو أن عمومه مخصوص بقوله : وليستنج بثلاثة أحجار .

[ ص: 162 ] وأما الجواب عن استدلالهم استدلاله بالماء فهو أنه ليس بأصل للأحجار على أن الماء لما اعتبرت فيه إزالة الأثر لم يفتقر إلى العدد ، والأحجار لما لم يعتبر فيها إزالة الأثر افتقرت إلى العدد .

وأما استدلالهم بالإنقاء فمع الإنقاء تعبد يعتبر فيه العدد كالولوغ وعدد الإقراء .

فصل : فأما قول الشافعي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم ، ففي الرجيع لأصحابنا تأويلان .

أحدهما : أنه النجو الذي قد رجع عن الطعام فصار نجسا فعلى هذا يكون استثناء من مضمر دل عليه مظهر وتقديره وليستنج بثلاثة أحجار وما قام مقامها ليس فيها رجيع ولا عظم .

والثاني : أن الرجيع هو الحجر الذي قد استعمل مرة فصار راجعا عن الموضع النجس فعلى هذا يكون تقدير الكلام يستنجي بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا عظم . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية