الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : وأما القسم الرابع : وهو أن يحكم الحاكم لحاضر على غائب بحق حاضر ، فهذا يكون في الأعيان المستحقة بالشهادة ، فلا يقف الحكم فيه على مكاتبة قاض آخر ، وينفرد بالحكم بعد سماع البينة إن كان ممن يرى القضاء على الغائب ، وسواء كانت العين منقولة أو غير منقولة .

فإن سأله المحكوم له أن يكتب له كتابا باستحقاق الملك الحاضر إلى قاضي البلد الذي فيه المحكوم عليه ، فإن كانت العين المحكوم بها منقولة ، لم يكتب بها لانبرام الحكم بها ، وانقطاع العلق فيها ، وإن كانت غير منقولة كالعقار أجابه إليه وكتب له به ، وإن كان الحكم قد انبرم : لأنه قد يجوز أن يستحق عن ذلك أجرة يطالب بها المحكوم عليه .

ويتفرع على هذا : أن رجلا لو حضر قاضي بلد وذكر له أنني ابتعت في خلطة فلان الغائب سهما من دار في بلدك وعفا عن شفعته ولي بينة قد أحضرتها تشهد عليه بالعفو فاسمعها ، واكتب بها إلى قاضي البلد الذي فيه الشفيع ، فلست آمن إن خرجت إليه أن يطالبني بالشفعة ويجحد العفو ، لم يسمع القاضي بينته ، ولم يكتب له بشيء ، وإنما لم يسمعها : لأن سماعها بعفو الغائب يكون بعد دعوى الغائب فلم يجز أن يسمع عليه بينة فيما لم يدعه .

وهكذا لو قال الحاضر لفلان الغائب : علي ألف ، قد دفعتها إليه أو قد أبرأني منها وهذه بينتي ، ولست آمن إن خرجت إليه أن يجحد القبض أو الإبراء ويطالبني ، فاسمع بينتي واكتب بها إلى قاضي بلده ، لم يسمعها ، ولم يكتب بها : لأن الغائب لم يطالب فلم يسمع البينة على غير مطالب .

وهكذا لو قال الحاضر : إن فلانا الغائب باعني هذه الدار ، أو وهبها لي ، وهذه بينتي ، ولست آمن أن يجحدها ، فاسمعها لي ، لم يسمعها لأن سماعها يكون بعد جواب الغائب إن أنكر .

ويتفرع على هذا : أن امرأة لو ادعت أن زوجها طلقها وهو غائب أو حاضر ، وهؤلاء شهودي عليه بالطلاق ولست آمن أن يتعرض لي فاسمع بينتي واحكم عليه بطلاقي ، لم يسمع بينتها ، سواء كان حاضرا أو غائبا لأنه لم يتعرض لها فلم تصح هذه الدعوى فإن تعرض لها الزوج أحضره ولم يسمع البينة قبل حضوره وإنكاره .

فإن كان الزوج غائبا وأرادت الزوجة أن تخرج إلى بلده ، ففي سماع بينتها إذا ادعت أنه قد يتعرض لها وجهان :

[ ص: 222 ] أحدهما : لا يسمعها كما لا يسمعها على مثل هذه الدعوى في الأملاك .

والوجه الثاني : يسمعها في الزوجية وإن لم يسمعها في الأملاك ، لما يلزم من فضل الاحتياط في حفظ الفروج ، ولو لم تذكر خروجها إلى بلده لم يسمع بينتها ، وجها واحدا .

ويتفرع على هذا : أن أمة لو كانت في يد رجل ، فأحضرها إلى القاضي ، وذكر أنه اشتراها من فلان الغائب ، ودفع إليه ثمنها ، وسأل القاضي أن يسمع بينته على ابتياعها ودفع ثمنها ، لم يسمعها منه ، فإن استحقت الأمة من يده ببينة شهدت بها لمستحقها جاز للقاضي حينئذ أن يسمع بينته بابتياعها من الغائب ، وإن لم يسمعها قبل الاستحقاق : لأنه مستحق للرجوع بدركها بعد الاستحقاق ، وغير مستحق للدرك قبل الاستحقاق .

وهكذا لو ادعت الأمة أنها حرة الأصل ، وأقامت بينة بحريتها فسأل صاحب اليد أن يسمع بينته بابتياعها من الغائب سمعها لاستحقاقه الرجوع بدركها .

ولو أن الأمة حين قالت أنها حرة الأصل عدمت البينة ولم يتقدم إقرارها بالرق ، قبل قولها في حريتها وأحلفت لصاحب اليد : لأن الحرية أصل لا يطرأ عليه الرق .

فإن سأل صاحب اليد أن تسمع بينته بابتياعها من الغائب ليرجع يدركها عليه ، لم يسمعها القاضي ولم يكاتب بها .

والفرق بينهما : أن بينتها بالحرية مسموعة على كل ذي يد ثابتة وزائلة ، وقولها في الحرية مقبول ، على ذي اليد الثابتة .

ويستحق صاحب اليد إحلاف البائع أنها ليست بحرة فإن سأل القاضي أن يكتب له بما حكم به من حريتها كتب له بإحلاف البائع ، ولم يكتب له برجوع الدرك على البائع .

ويتفرع على هذا : أن يشهد عند القاضي شاهد واحد بملك لرجل فيذكر المشهود له أن له شاهدا آخر في بلد آخر ، ويسأل القاضي أن يكتب إلى قاضي ذلك البلد بما شهد به الشاهد عنده فهذا معتبر بالملك .

فإن كان في بلد القاضي الآخر كتب له بشهادة من شهد عنده ليتولى ذلك الحاكم تكميل البينة وتنفيذ الحكم .

وإن كان الملك في بلد هذا القاضي لم يكتب له بالشهادة ، وأخذ كتاب ذلك القاضي بما شهد به الشاهد الآخر ليتولى هذا القاضي تنفيذ الحكم بالشاهدين .

ويتفرع على هذا أن رجلا أو امرأة لو ادعى واحد منهما أن له ولدا حرا في بلد [ ص: 223 ] آخر وسأل القاضي سماع البينة بنسبه وحريته أو بأنه ولد على فراشه ليكتب به إلى قاضي ذلك البلد ، فلهذا الطالب في طلبه ثلاثة أحوال :

إحداها : أن يطلب ذلك : لأن الولد قد مات فيجوز للقاضي أن يسمع البينة بذلك ويكتب به إلى قاضي ذلك البلد ليحكم له بميراث ولده .

والحال الثانية : أن يذكر أن الولد حي ، وأنه في يد من قد استرقه ؛ سمع البينة بنسبه وحريته ، وكتب بها إلى قاضي ذلك البلد ، سواء ذكر اسم المسترق أو لم يذكره .

ولو كان هذا في ملك لم تسمع البينة إلا بعد تسمية صاحب اليد : لأن الملك ينتقل والحرية لا تنتقل .

فإن كانت البينة تشهد بحرية الولد ولم تشهد بنسبه ، لم يسمعها ، ولم يكتب بها : لأن الطالب إذا لم يثبت له نسب لم يثبت له حق في الطلب ، ولو كانت البينة تشهد بالنسب دون الحرية ، نظر ، فإن كان ثبوته موجبا للحرية سمعها وكتب بها ، وإن لم يوجب الحرية لم يسمعها ولم يكتب بها .

والحال الثالثة : أن لا يذكر الطالب استرقاق الولد ، ولا موته ، فلا يجوز أن يسمع البينة ولا يكتب بها : لأنه لا يتعلق بها في الحال حق لطالب ولا مطلوب ، فهذا حكم الفصل الأول فيما اشتمل عليه من الأقسام الأربعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية