الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : فيما يجب على القاضي بعد وصول الكتاب إليه .

فإذا وصل كتاب القاضي على ما ذكرناه ووصفناه من شروطه وأحكامه وجب على القاضي المكاتب إحضار الخصم المطلوب ومسألته عما تضمنه كتاب القاضي من الحكم عليه .

وله في الجواب عنه ستة أحوال :

إحداها : أن يقر بوجوب الحق عليه لطالبه فيحكم عليه بإقراره ، دون الكتاب ؛ لأن الإقرار أقوى من الكتاب .

والحال الثانية : أن يقر بوجوب الحق عليه لطالبه ، ويدعي أنه قد قضاه ، فإن أقام بينة بالقضاء سمعت منه وبرئ بها ، وإن عدمها وسأل إحلاف الطالب لم يكن له ؛ لأن القاضي الكاتب قد أحلفه .

والحال الثالثة : أن يقر بوجوب الحق لغير هذا الطالب ، فإن كان الحق عينا قائمة ، بطل إقراره بها لغير هذا الطالب ، وكان الطالب المحكوم له بها أحق ، وإن كان الحق في الذمة صار مأخوذا بإقراره لغير الطالب ، ومأخوذا بالكتاب لحق هذا الطالب .

والحال الرابعة : أن ينكر وجوب الحق عليه ، ويقر بأنه المسمى في الكتاب فيؤخذ بالحق وإن أنكره ، لثبوته عليه بكتاب القاضي - وكتاب القاضي أوكد من الشهادة : لأنه عن شهادة اقترن بها حكم ، وكتب القضاة حجة على المنكرين دون المقرين .

والحال الخامسة : أن ينكر الحق ، وينكر أن يكون المسمى في الكتاب ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن ينكر الاسم المذكور ، ويدعي غيره من الأسماء فله فيه ثلاثة أحوال :

أحدهما : أن يعرف بما ادعاه من الأسماء ، فلا يلزمه الحكم حتى تقوم الشهادة عليه في عينه .

والثاني : أن يعرف بالأسماء المذكورة في الكتاب فيحكم عليه ولا يقبل ما ادعاه من الاسم .

[ ص: 239 ] والثالث : أن يكون مجهول الحال فلا يحكم عليه إلا ببينة تشهد عليه بالاسم المذكور .

والضرب الثاني : أن يعترف بالاسم ، ويذكر أنه اسم لغيره قد شاركه فيه ، وغيره هو المحكوم عليه ، فهذا على ضربين :

أحدهما : أن يعلم اشتراك جماعة في الاسم المذكور ، وأقلهم أن يشاركه فيه واحد ، فلا يحكم عليه بالكتاب إلا ببينة تشهد عليه أنه هو المسمى فيه .

والضرب الثاني : أن لا يعرف من يشاركه في ذلك الاسم والنسب فيؤخذ بالحق : لأنه المسمى في الظاهر ، ولا يقبل منه ما ادعاه من المشاركة في الاسم الذي لا يعرف لغيره .

فإن أقام بينة بأن غيره يسمى بمثل اسمه ونسبه ، فهو على ضربين :

أحدهما : أن يقيمها باسم حي موجود قد شاركه في اسمه ونسبه ، فتسمع بينته ، ولا يحكم عليه بالحق حتى يشهد الشهود عليه في عينه .

والضرب الثاني : أن يقيم البينة باسم ميت قد شاركه في اسمه ونسبه فلا يخلو حال الميت من أن يكون قد عاصر الحي أو لم يعاصره .

فإن لم يعاصره ، لم يكن لهذه المشاركة في الاسم تأثير وكان الحي مأخوذا بالحق ، ومعينا فيه بالاسم .

وإن كان قد عاصره الميت لم يخل موته من أن يكون قبل الحكم أو بعده .

فإن كان موته بعد الحكم منعت هذه المشاركة من تعين الحكم على الحي لمشاركة الميت في الاسم ، فصار كما لو شارك فيه حيا حتى يشهد الشهود عليه بعينه . وإن كان موته قبل الحكم ففيه وجهان حكاهما أبو حامد الإسفرايني :

أحدهما : أنه يثبت به حكم الاشتراك ويمنع من الحكم بالحق على الحي لاحتمال أن يكون الحق قد ثبت على الميت كثبوته على الحي .

والوجه الثاني : أنه لا يثبت به حكم الاشتراك ويؤخذ الحي بالحق : لأن مطلق الأحكام متوجهة في الظاهر إلى الأحياء دون الأموات .

والحال السادسة : أن لا ينكر الحق ، ويعترف بالاسم ، ويدعي جرح الشهود الذين شهدوا عليه بالحق ، فقد اختلف الفقهاء في سماع بينته على جرحهم .

فحكى الشافعي في اختلاف العراقيين عن أبي حنيفة أنه لا تسمع بينته بجرحهم ويؤخذ بالحق : لأنه لا يعلم ما حدث بعده من توبة من تقدم جرحه .

[ ص: 240 ] وحكي فيه عن ابن أبي ليلى أن بينته تسمع بجرحهم وفسقهم ، فإن أقامها سقطت شهادتهم وبطل الحكم لثبوت جرحهم ، فلم يؤخذ بالحق .

ثم ذكر الشافعي مذهبه ؛ وهو أن ينظر فيما ذكره من جرحهم :

فإن كان مما ترد به الشهادة مع العدالة بأن يدعي أنهم أعداؤه ، أو لهم فيما شهدوا به شرك ، أو بينهم وبين المشهود له ولادة تمنع من الشهادة . فهذا مانع من قبل شهادتهم ، وليس بجرح في عدالتهم ، فتسمع منه البينة بذلك ويبطل بهذا الحكم عليه .

وإن جرحهم بالفسق ، وما تسقط به العدالة ، فلا تخلو بينة الجرح من ثلاثة أحوال :

إحداها : أن تشهد بفسق الشهود في وقت شهادتهم فتسمع بينته بهذا الجرح ؛ لأن بينة الجرح أولى من بينة التعديل ، وتسقط شهادتهم بهذا الجرح ويبطل به الحكم .

والحال الثانية : أن يشهدوا بفسق الشهود بعد الحكم بشهادتهم ، فلا تسمع بينته بهذا الجرح ؛ لأن حدوث الفسق بعد تقدم العدالة لا يمنع من صحة ما تقدم من الحكم بالشهادة ، ويؤخذ بالحق .

والحال الثالثة : أن يشهدوا بفسق الشهود قبل سماع شهادتهم ، فيعتبر ما بين زمان الجرح والشهادة .

فإن كان قريبا لا يتكامل صلاح الحال في مثله ، سمعت بينة الجرح ، وحكم بسقوط شهادتهم : إن تطاول ما بين زمان الجرح والشهادة لم تسمع بينة الجرح ، وحكم بشهادتهم ؛ لأن الحال يصلح مع تطاول الزمان ، ويرتفع الفسق بما حدث بعده من العدالة .

فإن سأل مدعي الجرح إنظاره بإحضار البينة حتى يلتمسها أنظر بها ثلاثة أيام ، فإن أحضرها ، وإلا أخذ بالحق وأمضى عليه الحكم .

فإن سأل إحلاف المحكوم له على عدالة شهوده ، لم تلزمه اليمين : لأن تعديل الشهود إلى الحاكم دون المحكوم له ، ولا مدخل لليمين فيه .

ولو سأل إحلافه على أن لا ولادة بينه وبينهم ، ولا شركة ، وجب إحلافه على ذلك ، لاختصاصه بالمحكوم له دون الحاكم .

ولو سأل إحلافه على أن لا عداوة بينه وبينهم ، فهذا مما يخفى عليه فلم يلزم إحلافه عليه .

فإن سأل المحكوم عليه بعد استيفاء الحق منه الإشهاد له بقبض الحق منه ، وجب [ ص: 241 ] على القابض المطالب الإشهاد على نفسه ، وهل يجب إشهاد القاضي على نفسه ببراءته منه بقبض مستحقه ؟ على وجهين :

أحدهما : وهو قول أبي سعيد الإصطخري : يجب على القاضي الإشهاد كما يجب على القابض ، لما ظهر من ثبوت الحق عنده .

والوجه الثاني : لا يجب عليه الإشهاد ويجب الإشهاد على القابض وحده لاختصاص إسجال الأحكام بإثبات الحقوق دون إسقاطها .

التالي السابق


الخدمات العلمية