الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : حكم الهدية بصورة عامة .

وإذا كان كذلك فالمهاداة فيمن عدا الولاة مستحبة في البذل ومباحة في القبول ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " تهادوا تحابوا "

حكم مهاداة الولاة .

وأما مهاداة الولاة فهم ثلاثة أصناف : ولاة سلطنة ، وولاة عمالة ، وولاة أحكام .

فأما الصنف الأول : وهم ولاة السلطنة ، فكالإمام الأعظم ومن قام مقامه ، فكل الناس تحت ولايته ومن جملة رعيته . ولا تخلو مهاداته من أن تكون من أهل دار الإسلام أو من أهل دار الحرب .

هدايا أهل دار الحرب إلى ولاة السلطنة .

فإن هاداه أهل الحرب ، جاز له قبول هداياهم ، كما يجوز له استباحة أموالهم .

وينظر في سبب الهدية ؛ فإن كانت لأجل سلطانه فسلطانه بالمسلمين فصارت الهدية لهم دونه فكان بيت مالهم بها أحق .

وإن هاداه أهل الحرب لما لا يختص بسلطانه من مودة سلفت جاز أن يتملكها .

وإن هادوه لحاجة عرضت فإن كان لا يقدر على قضائها إلا بالسلطنة كان بيت المال أحق بها منه .

وإن كان يقدر عليها بغير السلطنة كان أحق بها من بيت المال .

فيكون حكم هداياهم منقسما على هذه الأقسام الثلاثة .

[ ص: 283 ] هدايا أهل دار الإسلام إلى ولاة السلطنة .

وأما هدايا دار الإسلام فتقسم على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يهدي إليه من يستعين به إما على حق يستوفيه ، وإما على ظلم يدفعه عنه ، وإما على باطل يعينه عليه ، فهذه هي الرشوة المحرمة .

روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الراشي والمرتشي والرائش " فالراشي : باذل الرشوة ، والمرتشي : قابل الرشوة ، والرائش : المتوسط بينهما .

ولأن الهدية إن كانت على حق يقوم به فهو من لوازم نظره ولا يجوز لمن لزمه القيام بحق أن يستعجل عليه كما لا يجوز أن يستعجل على صلاته وصيامه .

وإن كان على باطل يعين عليه ، كان الاستعجال أعظم تحريما ، وأغلظ مأثما .

فأما باذل الرشوة فإن كانت لاستخلاص حق أو لدفع ظلم لم يحرم عليه بذلها ، كما لا يحرم افتداء الأسير بها .

وإن كانت لباطل يعان عليه يحرم عليه بذلها كما حرم على المبذول له أخذها ، ووجب رد الرشوة على باذلها ولم يجز أن توضع في بيت المال .

والقسم الثاني : أن يهدي إليه من كان يهاديه قبل الولاية من ذي نسب أو مودة فهذه هدية ، وليست برشوة . وهي ثلاثة ضروب :

أحدها : أن تكون بقدر ما كانت قبل الولاية لغير حاجة عرضت ، فيجوز له قبولها لانتفاء الظنة عنها ، وللعرف الجاري في التواصل بها .

والضرب الثاني : أن تقترن بحاجة عرضت له فيمتنع من قبوله عند الحاجة ويجوز أن يقبلها بعد الحاجة فقد روي أن زيد بن ثابت كان يهدي إلى عمر بن الخطاب لبنا فيقبله ، حتى اقترض زيد مالا من بيت المال ، وأهدى اللبن ، فرده عمر ، فقال زيد : لم رددته ؟ فقال : لأنك اقترضت من بيت المال مالا ، فقال زيد : لا حاجة لي في مال يقطع الوصلة بيني وبينك ، فرد المال وأهدى اللبن فقبله منه .

والضرب الثالث : أن يزيد في هديته على قدر العادة لغير حاجة ، فينظر : فإن كانت الزيادة من جنس الهدية جاز قبولها لدخولها في المألوف وإن كانت من غير جنس الهدية منع من قبولها لخروجها عن المألوف .

والقسم الثالث : أن يهدي إليه من لم يكن يهاديه قبل الولاية فهذا على ثلاثة أضرب :

أحدها : أن يهدي إليه من يخطب منه الولاية على عمل يقلده ، فهذه رشوة تخرج من حكم الهدايا ، يحرم عليه أخذها ، سواء كان خاطب الولاية مستحقا لها ، أو غير مستحق وعليه ردها ، ويحرم على باذلها إن كان غير مستحق للولاية وإن كان مستحقا [ ص: 284 ] لها فإن كان مستغنيا عن الولاية حرم عليه بذلها وإن كان محتاجا إليها لم يحرم عليه بذلها .

والضرب الثاني : أن يهدي إليه من يشكره على جميل كان منه ، فهذا خارج من الرشا ، وملحق بالهدايا : لأن الرشوة ما تقدمت ، والهدية ما تأخرت ، وعليه ردها ولا يجوز له قبولها : لأنه يصير مكتسبا بمجاملته ومعتاضا على جاهه ، وسواء كان ما فعله من الجميل واجبا أو تبرعا ، ولا يحرم بذلها على المهدي .

والضرب الثالث : أن يهدي إليه من يبتدئه بالهدية لغير مجازاة على فعل سالف ولا طلبا لفعل مستأنف ، فهذه هدية بعث عليها جاه السلطنة ، فإن كافأ عليها جاز له قبولها وإن لم يكافئ عليها ففيه وجهان :

أحدهما : يقبلها لبيت المال لأن جاه السلطنة لكافة المسلمين .

والوجه الثاني : يردها ولا يقبلها لأنه المخصوص بها ، فلم يجز أن يستأثر دون المسلمين بشيء وصل إليه بجاه المسلمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية