الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
في المنع من القضاء على الغائب .

فصل : واستدل من منع القضاء على الغائب لقوله تعالى : وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [ النور : 48 ] . فدل هذا الذم على وجوب الحضور للحكم ولو نفذ الحكم مع الغيبة لم يجب الحضور ولم يستحق الذم .

وبما رواه سماك ، عن حنش بن المعتمر الصنعاني ، عن علي بن أبي طالب قال : ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمن وقال لي : " يا علي : إن الناس سيتقاضون إليك ، فإن أتاك الخصمان فلا تقضين لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء وتعلم لمن الحق " قال علي : فما شككت في قضاء بعد . قالوا فهذا نص في المنع من الحكم إلا بعد سماع قول الخصم ، فمنع هذا من القضاء على الغائب شرعا .

ثم منع منه عرفا قول الشاعر .

[ ص: 298 ]

حضروا وغبنا عنهم فتحكموا فينا وليس كغائب من يشهد



قالوا : ولأنه حكم على غير مأيوس من إقراره فوجب أن لا يحكم عليه بالبينة قبل إنكاره كالحاضر .

قالوا : ولأن فصل الحكم قد يكون ببينة المدعي تارة ، وبيمين المنكر أخرى ، فلما لم يجز فصل الحكم بيمين المنكر مع غيبة المدعي ، لم يجز فصله ببينة المدعي مع غيبة المدعى عليه ، وتحريره قياسا : أنها حجة أحد المتداعيين فلم يجز الحكم بها مع غيبة الآخر كاليمين .

قالوا : ولأن الحكم يكون للغائب تارة وعليه أخرى ، فلما لم يجز الحكم للغائب كان أولى أن لا يجوز الحكم على الغائب .

وتحريره قياسا أن من لم يجز الحكم له لم يجز الحكم عليه كالحاضر .

ودليلنا : قول الله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق [ ص : 26 ] وما شهدته به البينة على الغائب حق ، فوجب الحكم به .

وروى أبو موسى الأشعري قال : " كان إذا حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمان فتواعد موعدا فوفى أحدهما ولم يف الآخر قضى للذي وفى على الذي لم يف " ومعلوم أنه لا يقضي له بدعواه فثبت أنه قضى له بالبينة .

وروي أن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان بن حرب أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت من ماله سرا فهل علي في ذلك من حرج ، فقال لها : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وهذا قضاء منه على غائب ؛ لأن أبا سفيان لم يحضر " .

فإن قيل : فهذا منه فتيا وليس بحكم ، قيل : بل هو حكم ؛ لأنه قال لها : " خذي " ولو كان فتيا ، لقال : يجوز أن تأخذي . فإن قيل فقد حكم بغير بينة .

قيل : قد علم أنها زوجة أبي سفيان فلم يحتج إلى بينة .

فإن قيل : فهو حكم بمجهول ، لأنه قال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف

وقيل : لأن الواجب لها ولولدها معتبر بالكفاية ، والحكم بالواجب غير مجهول .

ولأن القضاء على الغائب إجماع :

روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : ألا إن أسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته أن يقال قد سبق الحاج فأدان معرضا ، فأصبح قد دين به فمن كان له عليه دين فليحضر غدا لنقسم ماله بينهم بالحصص ، وليس له مع انتشار قوله في الناس مخالف فكان إجماعا .

[ ص: 299 ] ومن القياس أن من جاز سماع البينة عليه جاز الحكم بها عليه كالحاضر ، ولأن ما تأخر عن سؤال المدعى عليه إذا كان حاضرا يقدم على سؤاله إذا كان غائبا كسماع البينة .

فإن قيل : سماع البينة تحمل ، فجاز مع الغيبة كالشهادة على الشهادة .

قيل : التحمل لا تعتبر فيه الدعوى ، كما لا تعتبر في الشهادة على الشهادة ، وسماع البينة على الغائب يعتبر فيها تقدم الدعوى ، فثبت أنه للحكم دون التحمل .

ولأن أبا حنيفة قد وافق في القضاء على الغائب في مسائل هي حجة عليه فيما عداها :

فمنها أن رجلا لو حضر فادعى أنه وكيل لفلان الغائب في قبض ديونه وأنكر من عليه الدين وكالته ، فأقام الوكيل البينة بالوكالة حكم بها على الغائب وجعل للوكيل قبض الدين من الحاضر .

ومنها أن شفيعا لو ادعى على حاضر ابتياع دار من غائب يستحق شفعتها فأنكر الحاضر الشراء ، فأقام الشفيع البينة بالابتياع ؛ حكم على الغائب بالبيع وعلى الحاضر بالشراء وأوجب الشفعة للشفيع .

ومنها أن امرأة لو ادعت أنها زوجة فلان الغائب وأن هذا ولده منها وأقامت البينة وسألت أن يحكم لها عليه بنفقتها ونفقة ولدها في ماله الحاضر ؛ جاز للحاكم أن يحكم عليه بذلك وهو غائب .

ومنها أن حاضرا لو ادعى أنه باع عبده هذا على فلان الغائب وقد منعه ثمنه وأقام بذلك بينة ؛ حكم على الغائب بالشراء وباع عليه العبد وقضاه حقه من ثمنه .

ومنها أن عبدا لو قطعت يده فأقام البينة على أن مولاه الغائب أعتقه ليقتص منه يده قضى على الغائب بعتقه ، وحكم له بالقصاص من يده إلى غير ذلك من أشباه هذه المسائل ، فكذلك فيما عداها .

فإن قيل : إن هذا يتعلق بحاضر ، قيل : فالحكم على الغائب وإن تعلق بحاضر ، فدل على أن الغيبة لا تمنع من نفوذ الحكم عليه لثبوته بالبينة .

ولأن في الامتناع من القضاء على الغائب إضاعة للحقوق التي ندب الحكام لحفظها ؛ لأنه يقدر كل مانع منها أن يغيب ، فيبطلها متواريا أو متباعدا ، والشرع يمنع من هذا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله لا يمنع ذا حق حقه " .

ولأن الغائب لو حضر لكان بين إقرار وإنكار فإن أقر فالبينة موافقة ، وإن أنكر فالبينة حجة فلم يكن في الغيبة مانع من الحكم بالبينة في حالتي إقراره وإنكاره .

[ ص: 300 ] فإن قيل إذا اجتمع الإقرار والبينة تعلق الحكم بالإقرار دون البينة .

قيل : هو كذلك إذا كان الإقرار ممكنا وبخلافه إذا كان معتذرا .

فإن قيل لو كان حاضرا لقدر على دفع البينة بالجرح ، ولا يقدر على ذلك مع الغيبة .

قيل : يمكنه بعد الحكم عليه أن يقيم البينة بالجرح فيسقطها وينتقض بها ما تقدم من الحكم ، فلم يمنعه نفوذ الحكم من استدراكه .

فأما الجواب عن الآية : فمن وجهين :

أحدهما : أنها في الحاضر ؛ لأن الدعاء يكون للحاضر دون الغائب .

والثاني : أنه ذمه بالإعراض ، وذمه أحق بوجوب الحكم عليه من إسقاطه عنه .

وأما الجواب عن الخبر فمن وجهين :

أحدهما : أنه قال : إذا أتاك الخصمان فكان واردا في الحاضرين .

والثاني : أن اشتراط ذلك في الحاضر دليل على جوازه في الغائب لعدم الشرط .

وأما الجواب عن قياسه على الحاضر : فهو أن سؤاله ممكن ، وسؤال الغائب متعذر .

وأما الجواب عن قياسه على يمين المنكر ، فهو وجود الدعوى في البينة فجاز الحكم بها ، وعدم الدعوى في يمين المنكر فلم يجز الحكم بها .

وأما الجواب عن قياسه على الحكم للغائب ، فهو أن لصاحب الحق تأخيره وليس لمن عليه الحق تأخيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية