الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : الخصم الغائب عن بلد القاضي .

وإن كان الخصم المطلوب غائبا عن بلد القاضي : لم يخل أن يكون في عمله ، أو في غير عمله .

فإن كان في غير عمله ، لم يكن له إحضاره ؛ لأنه لا ولاية له عليه .

وجاز له أن يسمع الدعوى والبينة عليه ، ليكاتب به قاضي البلد الذي فيه المطلوب .

وله في مكاتبته حالتان :

إحداهما : أن يكاتبه بسماع البينة ، ليتولى المكتوب إليه الحكم بها على المطلوب ، فهذا جائز عند من يرى القضاء على الغائب وعند من لا يراه .

والحال الثانية : أن يحكم بالبينة بعد سماعها ويكاتب القاضي بحكمه ، فهذا جائز عندنا وعند من يرى القضاء على الغائب ، ولا يجوز عند أبي حنيفة ومن لا يرى القضاء على الغائب .

وعليه في هذا القضاء على الغائب أن لا يحكم له بعد سماع البينة إلا بعد إحلافه بالله إن كان الحق في ذمة : أنه ما قبضه ، ولا شيئا منه ولا برئ إليه منه ولا من شيء منه ، وإن كان الحق في عين قائمة أحلفه أن ملكه عليها باق ما زال عنها ولا عن شيء منها .

[ ص: 304 ] وإنما أحلفه قبل الحكم : لأن المحكوم عليه لو كان حاضرا لجاز أن يدعي ذلك ، فيستحق اليمين ، فلم يكن له إمضاء الحكم مع هذا الاحتمال ، إلا بعد الاحتياط فيه .

وذهب بعض أصحابنا وهو الحسين بن علي الكرابيسي إلى أن القاضي يطالب المحكوم له بكفيل ، لجواز أن يتجدد ما يوجب بطلان الحكم فيؤخذ به الكفيل .

وذهب جمهور أصحابنا وهو قول أكثر الفقهاء إلى أن مطالبته بالكفيل لا تجب لأمرين :

أحدهما : أنها كفالة بغير مستحق .

والثاني : أن قضاءه على الغائب كقضائه على الميت والصبي ، وليس يلزم أخذ الكفالة في القضاء عليهما ، كذلك لا تلزم في القضاء على الغائب .

ويشترط القاضي في حكمه على الغائب أنه قد جعله على حق وحجة إن كانت له لئلا يقتضي إطلاق حكمه عليه إبطال حججه وتصرفه .

وإن كان الخصم المطلوب غائبا في إعمال هذا القاضي : لم يخل أن يكون له فيه نائب مرتب للأحكام عموما أو خصوصا .

فإن كان له نائب في بلد الغائب لم يلزمه إحضاره ، وكان بالخيار في الأصلح للخصم من إنفاذه إلى خليفته لمحاكمة خصمه ، أو سماع البينة عليه ومكاتبة خليفته

وإن لم يكن في بلد الغائب خليفة فقد قال أبو يوسف : إن كان على مسافة يرجع منها إلى وطنه قبل منام الناس أحضره وإن بعد عنها لم يحضره .

وعند الشافعي يحضر إن كان على مسافة لا تقصر بها الصلاة .

واختلف أصحابنا إن كان على مسافة تقصر فيها الصلاة .

فذهب أكثرهم وهو الظاهر من مذهب الشافعي إلى أنه يحضره للمحاكمة لئلا يتمانع الناس في الحقوق بالتباعد .

وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إحضاره ؛ لأنه لما كانت مسافة القصر شرطا في انتقال ولاية الغائب في النكاح إلى الحاكم ، دل ذلك على اعتبار في إحضار الخصم ، وهذا غير صحيح ، للتعليل المتقدم .

وإذا لزم إحضار الغائب على ما بيناه لم يجز للقاضي أن يحضره إلا بعد تحرير الدعوى وصحة سماعها : لأنه قد يجوز أن يدعي ما لا تصح فيه الدعوى .

حكي أن رجلين تقدما إلى قاض ، فقال أحدهما : إن أخا هذا قتل أخي ، فقال القاضي للمدعى عليه ما تقول ؟ فقال : إن غير هذا قتله غيري فماذا علي .

[ ص: 305 ] وهذا جواب صحيح عن فساد هذه الدعوى ، وكان من صحتها أن يقول : إن أخاه قتل أخي ، وأنا وارثه ، وهذا من عاقلته ، لتتوجه له المطالبة بهذه الدعوى .

ولذلك لم يجز أن يحضر الغائب إلا بعد تحرير الدعوى بما يصح سماعها والحكم فيها ببينة أو يمين .

ولو كانت الدعوى على حاضر في البلد ، جاز للقاضي إحضاره قبل تحرير الدعوى ، والفرق بينهما أن في إحضار الغائب مشقة ، فلم يلزم إلا بعد تحرير الدعوى

وليس في إحضار من في البلد مشقة ، فجاز إحضاره قبل تحرير الدعوى .

التالي السابق


الخدمات العلمية