الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والفصل الثالث في جواب المدعى عليه .

وليس تخلو حاله بعد سؤاله عن الدعوى من ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يقر .

والثاني : أن ينكر .

والثالث : أن لا يقر ولا ينكر .

فأما القسم الأول : إذا أقر : فقد ثبت الحق عليه بإقراره .

وليس للقاضي أن يحكم عليه به ويلزمه أداؤه إلا بعد أن يسأله المدعي أن يحكم عليه بإقراره ؛ لأنه لا يجوز أن يحكم لغير طالب فيقول القاضي للمدعي قد أقر لك بما ادعيت فماذا تريد ؟

ولا يقول له : قد سمعت إقراره ؛ لأن قوله : " قد أقر " حكم بصحة الإقرار ، وليس قوله قد سمعت الإقرار حكما بصحة الإقرار .

فإن لم يطالبه المدعي بالحكم أمسك عنه ، وصرفهما .

وكان للمدعي أن يتنجز من القاضي محضرا بثبوت الحقوق دون الحكم به .

ولم يكن له ملازمة المقر قبل الحكم .

وإن سأله الحكم عليه بإقراره ، حكم بأحد ثلاثة ألفاظ : إما أن يقول : قد حكمت عليك بإقرارك ، وإما أن يقول : قد ألزمتك ما أقررت به ، وإما أن يقول : اخرج إليه من حقه في إقرارك .

وللمدعي أن يتنجز من القاضي محضرا ، بثبوت الحق ، وبإنفاذ حكمه به .

وله ملازمة المقر حتى يخرج إليه من حقه .

وليس له مطالبته بكفيل ، إلا أن يتفقا عليه عن تراض .

ولا يسقط حقه من ملازمته بإقامة الكفيل ، سواء كفل بنفسه أو بما عليه ؛ لأن الكفالة وثيقة ، فلم تمنع من الملازمة كما لم تمنع من المطالبة .

فإن اتفقا عن الكفالة على تخلية سبيله ، لم يلزم هذا الاتفاق ، وكان له أن يعود إلى ملازمته بعد تخليته ؛ لأنه حق له ، إلى أن يستوفي حقه .

[ ص: 310 ] وأما القسم الثاني : وهو أن ينكر الدعوى ، فيجوز للقاضي أن يقول للمدعي : قد أنكرك ، ويجوز أن يقول له قد سمعت إنكاره ، بخلافه في الإقرار الذي قدمناه لتردد الإقرار بين صحة وفساد ، وعدمه في الإنكار .

ويكون القاضي في إخباره بالإنكار بين خيارين .

إما أن يقول له : قد أنكرك فهل لك بينة ؟ وإما أن يقول له : قد أنكرك فما عندك فيه ؟

الأول أولى مع من جهل ، والثاني أولى مع من علم .

ويكون الحكم في إنكار الدعوى موقوفا على بينة المدعي في إثبات الحق بها ، وعلى يمين المنكر عند عدمها لإسقاط المطالبة بها .

وللمدعي الخيار في إقامة البينة : لأنها من حقوقه ، فلم يجبر على إقامتها .

وللمنكر الخيار في اليمين : لأنها من حقوقه ، فلم يجبر على الحلف بها والحكم فيها ، على ما سنذكره .

فلو أنكر المدعى عليه ، وقال : ما لك علي شيء ، فقال له المدعي : نعم . كان تصديقا له على الإنكار وبطلت به دعواه .

ولو قال : بلى . كان تكذيبا له على الإنكار ، ولم تبطل به دعواه .

والفرق بينهما أن نعم جواب الإيجاب ، وبلى جواب النفي .

وهذا حكمه فيمن كان من أهل العلم بالعربية .

وفي اعتباره فيمن كان من غير أهل العلم بها وجهان على ما ذكرنا في كتاب الإقرار .

وأما القسم الثالث : وهو أن لا يقر بالدعوى ولا ينكرها ، فله حالتان :

إحداهما : أن يكون غير ناطق لخرس أو صمم .

فإن كان مفهوم الإشارة صار بها كالناطق ، فيجري عليه حكم الناطق .

وإن كان غير مفهوم الإشارة صار كالغائب فيجري عليه حكم الغائب .

والحال الثانية : أن يكون ناطقا فامتناعه من الإقرار والإنكار قد يكون من أحد وجهين :

إما بأن يقول : لا أقر ولا أنكر ، وإما بأن يسكت فلا يجيب بشيء فيجري عليه حكم الناكل .

[ ص: 311 ] ولا يحبس على الجواب .

وقال أبو حنيفة : احبسه حتى يجيب بإقرار أو إنكار ، وبناه على أصله في الحكم بالنكول ، ونحن لا نحكم به ، فلا نحبسه عليه وسنذكر حكم النكول .

التالي السابق


الخدمات العلمية