الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : والفصل الرابع في سماع البينة :

والبينة تسمع على المنكر دون المقر .

لأن الإقرار أصل هو أقوى ، والبينة فرع هو أضعف ، ولم يجز ترك الأقوى بالأضعف .

شروط سماع البينة .

ولسماعها أربعة شروط :

أحدها : أن تكون موافقة للدعوى .

فإن خالفتها في الجنس لم تسمع .

وإن خالفتها في القدر إلى نقصان حكم في القدر بالبينة دون الدعوى .

وإن خالفتها إلى زيادة حكم في القدر بالدعوى دون البينة ما لم يكن من المدعي تكذيب للبينة في الزيادة ، فإن أكذبها فيه ردت ولم يحكم بها .

والشرط الثاني : أن يتفق شاهدا البينة على الشهادة .

فإن اختلف الشاهدان في الجنس ردت .

وإن اختلفا في القدر تمت في الأقل دون الأكثر .

والشرط الثالث : أن تسمع بعد الدعوى والإنكار .

فإن سمعت قبل الدعوى لم تجز .

وإن سمعت بعد الدعوى وقبل الإنكار ، ففي جوازه وجهان :

أحدهما : يجوز سماعها لوجودها بعد الطلب .

والوجه الثاني : لا يجوز سماعها حتى تؤدى بعد الإنكار لتقدمها على زمانها .

والشرط الرابع : أن يكون الأداء بلفظ الشهادة دون الخبر ، فيقول أشهد أنه أقر عندي وأشهدني على نفسه أن عليه لفلان كذا ، وإن كانت الشهادة على إقرار .

فإن قال أشهد أنه أقر عندي ولم يقل وأشهدني على نفسه ، فإن لم يجعل الاسترعاء شرطا في تحمل الإقرار صح هذا الأداء .

وإن جعل الاسترعاء شرطا في تحمله لم يصح .

[ ص: 312 ] وإن كانت الشهادة على غير إقرار كالثمن في بيع حضره أو صداق في نكاح شهده أو قرض شاهده ، ففي لزوم ذكره للسبب في أدائه وجهان ، كقوله في أداء الإقرار وأشهدني بناء على اعتبار الاسترعاء في التحمل .

فأما إن شهد بلفظ الخبر فقال له عليه كذا ، أو أعلم أن له عليه كذا ، أو أقر عندي أن عليه كذا لم تصح هذه الشهادة ، ولم يجز الحكم بها ؛ لأن الخبر حكاية حال مضافة إلى المشهود عليه ، فلم يتعلق بها الإلزام إلا بالشهادة المضافة إلى الشاهد .

فإذا تقرر اعتبار هذه الشروط الأربعة في صحة الشهادة لم يكن للقاضي أن يسمعها إلا بمسألة المدعي ؛ لأن سماعها حق له .

والأولى أن يسمعها على المدعى عليه في عينه وبمشهده .

فإذا سمعها لم يكن له أن يحكم بها ، إلا أن يسأله المشهود له أن يحكم له ببينته .

فإذا سأله الحكم فالأولى أن لا يحكم إلا بعد إعلام المشهود عليه أنه يحكم عليه بالبينة ، ليذكر ما لعله أن يكون عنده من الأسباب التي ترد بها الشهادة ، أو يقر فيكون الإقرار أقوى من الشهادة .

فإن حكم بها قبل إعلام المشهود عليه جاز .

وإن حكم بها قبل مسألة المشهود له ، ففي جوازه وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين في جواز سؤال القاضي المدعى عليه قبل أن يطالبه المدعي بسؤاله :

أحدهما : لا يجوز حكمه ، لأنه حكم لغير طالب .

والوجه الثاني : يجوز حكمه ؛ لأن شواهد الحال تدل على الطلب .

فإن قال المدعى عليه قبل الشهادة : ما يشهد به هذان الشاهدان علي فهو حق لم يكن إقرارا منه بما يشهدان به لتقدمه على الشهادة .

ولو قال بعد الشهادة : ما شهدا به علي حق كان إقرارا .

ولو قال ما شهدا به علي صدق لم يكن إقرارا .

والفرق بينهما أن الحق : ما لزم ، فلم يتوجه إليه احتمال ، والصدق : قد يكون فيما قضاه ، فتوجه إليه الاحتمال .

وإذا حكم عليه بالبينة لم يلزم إحلاف المدعي مع بينته ، وهو قول جمهور الفقهاء .

[ ص: 313 ] وقال ابن أبي ليلى : لا أحكم له بالبينة حتى يحلفه معها ، كما لا أحكم له على غائب إلا بعد يمينه .

وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما : أن في إحلافه مع بينته قدحا فيها .

والثاني : أنه يحلف في الغائب ، لجواز أن يكون قد قضاه ، والحاضر لو قضاه لذكره .

فلو أخر المدعي إحضار بينته ، وأراد ملازمة خصمه على إحضاره ، سأله القاضي عنها ، فإن كانت غائبة لم يكن له ملازمة الخصم ، وقيل : له لك الخيار في تأخيره إلى حضور بينتك ، أو تحلفه فتسقط الدعوى ، فإن حضرت بينتك لم تمنع اليمين من سماعها .

وإن كانت البينة حاضرة في البلد ، فأراد ملازمته على حضورها كان له أن يلازمه ما كان مجلس الحكم في يومه باقيا .

فإذا انقضى المجلس لم يكن له ملازمته ما لم تشهد أحواله بوجود البينة .

فإن شهدت أحواله بوجود البينة جاز أن يلازمه إلى غاية أكثرها ثلاثة أيام لا يتجاوزها .

ولا يلزمه إقامة كفيل بنفسه .

وقال أبو حنيفة : له أن يلازمه أبدا ما كان حضورها ممكنا أو يعطيه كفيلا بنفسه لرواية الهرماس بن حبيب ، عن أبيه ، عن جده أنه استعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل في حق له ، فقال له : الزمه .

ودليله ما رواه سماك ، عن علقمة بن وائل ، عن أبيه وائل بن حجر أن رجلا من حضرموت ورجلا من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي : هذا غلبني على أرض ورثتها من أبي ، وقال الكندي : أرضي وفي يدي أزرعها حق له فيها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : " شاهداك أو يمينه " فقال : إنه فاجر لا يتورع من شيء فقال : " ليس لك إلا ذلك " فنفى استحقاق الملازمة .

فأما الجواب عن الخبر أنه إذن في الملازمة على حق ، والحق ما ثبت وجوبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية