فصل : والفصل الخامس : في  
إحلاف المنكر     .   
[ ص: 314 ] وإحلافه حق للمدعي  ، فلا يجوز للقاضي أن يحلفه إلا بعد مطالبة المدعي بإحلافه .  
فإن كان المدعي عالما باستحقاق اليمين عند عدم البينة ، وإلا أعلمه القاضي أنه قد وجب له اليمين عليه ، ليرى رأيه في إحلافه أو تركه .  
وإذا كان ذلك إلى خياره فله حالتان :  
إحداهما : أن يترك إحلافه ، فلا يسقط حقه من اليمين متى أراد إحلافه بالدعوى المتقدمة . ولو  
قال قد عفوت عن اليمين وقد أبرأته منها  ، سقط حقه منها في هذه الدعوى ولم تسقط الدعوى ، فإن أراد إحلافه من بعد لم يجز أن يحلفه بالدعوى المتقدمة ، ويجوز أن يستأنف الدعوى فيحلفه بالدعوى المستأنفة .  
والحال الثانية : أن يسأل إحلافه ، فهذا على أربعة أضرب :  
أحدها : أن يمسك عن ذكر بينته عند سؤاله إحلاف خصمه ، فلا يذكر أن له بينة ولا أن ليست له بينة ، فليس للقاضي أن يلزمه ذكر البينة ، وعليه أن يحلف له خصمه . فإن  
أحضر المدعي بعد إحلاف خصمه بينة  سمعها ، وحكم عليه بها ، وبه قال  
أبو حنيفة   وأكثر الفقهاء .  
وقال  
ابن أبي ليلى   ،  
ومالك   ،  
وأبو عبيد   ،  
وإسحاق   ،  
وداود      : لا يسمعها لانفصال الحكم باليمين ، ولأن سقوط الدعوى بها موجب لسقوط الحق .  
وهذا غير صحيح : لأن البينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة .  
ولأن في البينة إثباتا ، وفي اليمين نفيا ، والإثبات أولى من النفي .  
ولأن اليمين تكون مع عدم البينة ، فإذا وجد البينة سقط حكم اليمين .  
وليس سقوط الدعوى موجبا لسقوط الحق : لأن الحقوق لا تسقط إلا بقبض أو إبراء وليست اليمين بقبض ولا إبراء .  
والضرب الثاني : أن  
يذكر المدعي أن له بينة غائبة ، ويسأل إحلاف خصمه  ، فعلى القاضي أن يحلفه لأن الغائبة كالمعدومة ؛ لأنه يجوز أن تقدم ولا تقدم : ولأن الحكم إذا وجب تعجيله لم يجز تأخيره .  
فإن أحلفه وحضرت البينة جاز أن يسمعها ويحكم بها على ما ذكرنا .  
والضرب الثالث : أن  
يذكر أنه له بينة حاضرة ، ويسأل إحلافه مع حضور بينته  ، ففي جواز إحلافه وجهان :   
[ ص: 315 ] أحدهما : وهو قول  
أبي حنيفة   ليس له إحلافه ؛ لأن مقصود المدعي إثبات الحق دون إسقاطه .  
والوجه الثاني : وهو قول أبي يوسف ، والأظهر من مذهب  
الشافعي   له إحلافه لجواز أن يتورع عن اليمين فيعترف ، والإقرار أقوى من البينة .  
فإن أحلفه وأراد إقامة البينة سمعت .  
ولو أقامها قبل إحلافه وأراد إحلافه بعد إقامتها لم يجز لعدم تأثيرها .  
فلو  
قال المدعي : إن حلف فهو بريء  ، فحلف لم يمنع ذلك من سماع البينة ؛ لأن البراءة لا تقع بالصفات .  
والضرب الرابع : أن  
يذكر أن لا بينة له حاضرة ولا غائبة ، ويسأل إحلافه  ، فعلى القاضي أن يحلفه .  
فإن أحلفه ثم أحضر بعد يمينه بينة ، فقد اختلف أصحابنا في سماعها على وجهين :  
أحدهما : وهو قول الأكثرين أنه لا يسمعها منه ؛ لأنه قد أكذبها بإنكارها .  
والوجه الثاني : وهو محكي عن  
أبي سعيد الإصطخري      : أنه يسمعها منه ، لأنه قد لا يعلم أنه له بينة ثم يعلم ، ولو علم لكان ذلك كذبا منه ، ولم يكن تكذيبا للبينة .  
فإذا تقرر ما ذكرنا ، ووجب إحلاف المنكر ، فلا يجوز للقاضي أن يحلفه قبل مسألة المدعي .  
واختلف أصحابنا  
هل يجوز للقاضي أن يعرض عليه اليمين قبل مسألة المدعي ؟  
على وجهين :  
أحدهما : وهو قول  
أبي حنيفة      : لا يجوز كما لم يجز له إحلافه .  
والوجه الثاني : وهو قول  
أبي العباس بن سريج   يجوز أن يعرضها وإن لم يجز أن يحلفه بها ليعلم إقدامه عليها ، فيغطه أو يوقفه عنها فيحذره فإن استمهل المنكر في اليمين ، فإن كان استمهاله ليراجع النظر في حسابه أمهله بحسب ما يمكنه مراجعة الحساب ، وإن استهمله لغير ذلك لم يمهله ولم يحبسه على اليمين ، وكان على ما سنذكره من حكم النكول .  
فلو  
سأل المنكر إحلاف المدعي على ما ادعاه  لم يكن له إحلافه : لأن اليمين حق عليه وليست حقا على المدعي ، وقيل : إنما يحلف المدعي بعد نكولك إن اختار .  
ولو  
سأل المدعي تأخير إحلاف المنكر  ، ليغلظ عليه اليمين بإحلافه بعد العصر      
[ ص: 316 ] أو في الجامع ، كان له ملازمة المنكر إن استحق تغليظها ، ولم يكن له ملازمته إن لم يستحق تغليظها .  
فلو  
كانت الدعوى تشتمل على أنواع فأراد المدعي أن يحلفه على أحدها ويتوقف عن إحلافه فيما عداه  جاز .  
وإن أراد أن يحلفه على كل نوع منها يمينا يمينا ، نظر : فإن فرقها في الدعوى جاز أن تفرق في الأيمان ، وإن جمعها في الدعوى لم يجز أن تفرق في الأيمان .  
ولو  
اشترك في الدعوى اثنان فأنكرهما  وجب أن يحلف لكل واحد منهما يمينا ولا يجمع بينهما في اليمين الواحدة : لأن كل واحد منهما مستحق ليمين في حقه ، فلم يجز أن تتبعض يمينه في حقهما .  
فإن رضيا أن يحلف لهما يمينا واحدة ففي جوازها لأصحابنا وجهان :  
أحدهما : يجوز لوقوف اليمين على خيار المدعي .  
والوجه الثاني : لا يجوز لما فيه من تبعيض اليمين : فعلى هذا إذا أحلفه لهما يمينا واحدة لم يعتد بها واستأنف إحلافه لكل واحد منهما يمينا مفردة .  
وقد أحلف  
إسماعيل بن إسحاق القاضي   يمينا واحدة في حق شريكين ، فأنكره عليه فقهاء عصره ؛ لأنه قد يكون الحق دعوى أحدهما صحيحة ، فإذا أحلف أنه لا حق لهما عليه كان صادقا لأن الحق لهما .