الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
فصل : تحكيم الخصمين شخصا

وإذا حكم خصمان رجلا من الرعية ليقضي بينهما فيما تنازعاه في بلد فيه قاض أو ليس فيه قاض جاز .

لأن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب تحاكما إلى زيد بن ثابت .

ولأنه لما حكم علي بن أبي طالب في الإمامة ، كان التحكيم فيما عداها أولى .

وهكذا حكم أهل الشورى فيها عبد الرحمن بن عوف .

نفوذ حكم المحكم .

وإذا جاز التحكيم في الأحكام فنفاذ حكمه معتبر بأربعة شروط :

أحدها : أن يكون المحكم من أهل الاجتهاد ، ويجوز أن يكون قاضيا ؛ لأنه قد صار بالتحكيم حاكما ، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد بطل تحكيمه ، ولم ينفذ حكمه .

والشرط الثاني : أن يتفق الخصمان على التراضي به إلى حين الحكم ، فإن رضي به أحدهما دون الآخر أو رضيا به ثم رجعا أو رضي أحدهما بطل تحكيمه ولم ينفذ حكمه ، سواء حكم للراضي أو للراجع .

والشرط الثالث : أن يكون التحاكم في أحكام مخصوصة .

والأحكام تنقسم في التحكيم ثلاثة أقسام :

قسم يجوز فيه التحكيم : وهو حقوق الأموال ، وعقود المعاوضات ، وما يصح فيه العفو والإبراء .

وقسم لا يجوز فيه التحكيم ، وهو ما اختص القضاة بالإجبار عليه من حقوق الله تعالى والولايات على الأيتام وإيقاع الحجر على مستحقيه .

[ ص: 326 ] وقسم مختلف فيه وهو أربعة أحكام : النكاح واللعان والقذف والقصاص .

ففي جواز التحكيم فيها وجهان :

أحدهما : يجوز لوقوفها على رضا المتحاكمين .

والثاني : لا يجوز لأنها حقوق وحدود يختص الولاة بها .

فلو أن امرأة لا ولي لها خطبها رجل ، فتحاكما إلى رجل ليزوج أحدهما بالآخر ، فإن كانا في دار الحرب أو في بادية لا يصلان إلى حاكم جاز تحكيمهما وتزويج المحكم لهما . وإن كانا في دار الإسلام وحيث يقدران فيه على الحاكم كان في جوازه وجهان على ما ذكرنا .

والشرط الرابع : فيما يصير الحكم به لازما لهما .

وفيه للشافعي قولان نص عليهما في اختلاف العراقيين :

أحدهما : أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا ؛ لأنه لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أن يقف على خيارها في الانتهاء ، وهو قول المزني .

والقول الثاني : وهو قول الكوفيين وأكثر أصحابنا أنه يكون حكم المحكم لازما لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فعليه لعنة الله " فكان الوعيد دليلا على لزوم حكمه كما قال في الشهادة : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] فدل الوعيد على لزوم الحكم بشهادته ، وكقوله عليه السلام : " من علم علما وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " فدل الوعيد على لزوم الحكم بما أبداه .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وإذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا " فصار بتأميرهم له نافذ الحكم عليهم كنفوذه لو كان واليا عليهم ، ولذلك انعقدت الإمامة باختيار أهل الاختيار .

وحكى أبو سعيد الإصطخري فيه وجها ثالثا : أن خيارهما في التحكيم ينقطع بشروعه في الحكم ، فإذا شرع فيه صار لازما لهما ، وإن كان قبل شروعه فيه موقوفا على خيارهما ؛ لأن خيارهما بعد الشروع في الحكم مفض إلى أن لا يلزم بالتحكيم حكم إذا رأى أحدهما توجه الحكم عليه ، فيصير التحكيم لغوا .

فإذا صار نافذ الحكم بما ذكرناه ، نظر ، فإن كان ممن يجوز أن يشهد لهم عليهم [ ص: 327 ] لزم المتنازعين إليه حكمه ، وكان المحكوم عليه مأخوذا به ما لم يتعد الحكم إلى غير المتنازعين .

ولم يكن للقاضي أن يرد حكمه إلا ما يرده من حكم غيره من القضاة .

وإذا حكم بينهما أشهد به في المجلس الذي حكم فيه قبل التفرق ؛ لأن قوله لا يقبل عليهما بعد الافتراق ، كما لا يقبل قول الحاكم بعد العزل .

فإن تعدى الحكم إلى غير المتنازعين فضربان :

أحدهما : ما كان منفصلا عن الحكم ، ولا يتصل به إلا عن سبب موجب كتحاكمهما إليه في دين فأقام به مدعيه بينة شهدت بوجوب الدين ، وأن فلانا ضامنه لزم حكمه في الدين ولم يلزم حكمه في الضمان لوجود الرضا ممن وجب عليه الدين وعلم الرضا ممن وجب عليه الضمان .

والضرب الثاني : أن يكون متصلا بالحكم ، ولا ينفصل عنه إلا بسبب موجب كتحاكمهما إليه في قتل خطأ قامت به البينة ، ففي وجوب الدية على العاقلة التي لم ترض بحكمه وجهان :

أحدهما : تجب عليه الدية لوجوبها على الراضي بحكمه إذا قيل إن الدية على الجاني ثم تتحملها عنه العاقلة .

والوجه الثاني : لا تجب على العاقلة الدية ؛ لأنهم لم يرضوا بحكمه إذا قيل إن الدية تجب بابتداء على العاقلة .

وإذا رضي المتنازعان بتحكيم اثنين لم ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا ، فإن اختلفا في الحكم لم ينفذ حكم واحد منهما حتى يتفقا على الحكم كما اتفقا على النظر .

وإن كان التحكيم من المتنازعين لمن لا يجوز أن يشهد لهما ولا عليهما ، والذي لا يجوز أن يشهد لهما والد وولد ، والذي لا يجوز أن يشهد عليهما عدو ، فينظر : فإن حكم على من لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد لمن يجوز أن يشهد له من الأجانب جاز ، كما يجوز أن يشهد عليه وإن لم يجز أن يشهد له .

وإن حكم لمن لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد على من يجوز أن يشهد له من الأجانب ففي جوازه وجهان :

أحدهما : لا يجوز حكمه له ، كما لا يجوز أن يحكم له بولاية القضاء .

والوجه الثاني : يجوز أن يحكم له بولاية التحكيم وإن لم يجز أن يحكم له بولاية [ ص: 328 ] القضاء ؛ لأن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما ، فصار المحكوم عليه راضيا بحكمه عليه وخالفت الولاية المنعقدة بغير اختيارهما .

وإن حكم لعدوه نفذ حكمه .

وإن حكم على عدوه ففي نفوذ حكمه عليه ثلاثة أوجه :

أحدها : لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء بولاية التحكيم كما لا يجوز أن يشهد عليه .

والوجه الثاني : يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء وولاية التحكيم بخلاف الشهادة ، لوقوع الفرق بينهما بأن أسباب الشهادة خافية وأسباب الحكم ظاهرة .

الوجه الثالث : أنه يجوز أن يحكم عليه بولاية التحكيم لانعقادها عن اختياره ولا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء لانعقادها بغير اختياره .

التالي السابق


الخدمات العلمية